الثامن - زائر المساء - تحليل - وأفكار رئيسة

زائر المساء

أولا : من ناحية المضمون :

q المكان : أحد فنادق دمشق .

q الزمان : عام 1980ى ( بعد ثلاث عشرة سنة من هزيمة حزيران )

q الشخصيات : الراوي ( الكاتب ) / أبو صالح .

q الوقائع والأحداث :

يعود الراوي متأخراً إلى الفندق ، فيناوله موظف الاستقبال المفتاح وبه رسالة مشبوكة ، يدفع الرسالة في جيبه ، يدخل غرفته ، يستلقي بعض الوقت ، يقرأ الرسالة ،إنها من شخص يدعى أبا صالح الذي يرغب في تكرار الزيارة الساعة السابعة مساء اليوم التالي ، يحاول أن يتذكر أبا صالح هذا دون جدوى ، في اليوم التالي يتواجد في صالة الفندق قبل الساعة السابعة ، ليترك لأبي صالح التعرف عليه ، في الساعة السابعة يدخل أبو صالح ويتعانقان ، يحاول الراوي أن يتعرف على أبي صالح من خلال الحوار لكنه يفشل ويكتشف أبو صالح ذلك ، فيذكره بابنه صالح الذي كان تلميذاً للراوي فيتذكره ، يسأل عن صالح فيخبره أبو صالح بأنه قتل في أول يوم لاحتلال القدس ، وبأنه حمله إلى البيت حيث دفنه فيه ، وأنه بعد ذلك أصبح يراه في انتظاره كل مساء على بوابة البيت ، حتى فكر أن يغير بيته ، ثم قرر الانضمام للثوار .

يذهب وأسرته إلى عمان ثم يغادرهم بعد أحداث 1970 إلى الجنوب اللبناني ، يقارن أبو صالح بين حياته وحياة الراوي المهدرة في الركض وراء لقمة العيش .

يدرك الراوي هدف زيارة أبي صالح ( حمل بعض النقود إلى أسرته في عمان ) ، يوافق الراوي على القيام بالمهمة ، يغادره أبو صالح تاركاً إياه وزوبعة كالإعصار تعصف به .

التحليل النقدي ( القراءة الناقدة )

q أهمية الموضوع :

يعيش الشعب الفلسطيني حياة قاسية ، يصارع فيها القهر والاستبداد ليبقى حيا ، يسعى ليثبت ذاته، يتعرض باستمرار لمحاولات القضاء عليه وإزالته ، لكنه يبقى صامداً قوياً معطاء ، متحديا ، قادرا على انتزاع الحياة لأبنائه وطالبنا في هذه المرحلة ، تتفتق مواهبه، وتتحدد اتجاهاته ،ويأخذ طريق مستقبله ، ويزودنا الأدب الفلسطيني الجاد والملتزم بماء الحياة ، نقدمه لأبنائنا ، ليملأ عروقهم عزما وإصراراً وصلابة ،فيصنعون لهم ولنا الغد المشرق .

وفي هذه السن يبدأ طلابنا الكتابة الإبداعية ، فيعبرون عما يموج في داخلهم شعراً أو نثراً ، لذا كان لزاماً علينا تزويدهم وإرشادهم إلى مناهل الأدب يغترفون منها ليبنوا مستقبلهم الأدبي .

q الوقائع والأحداث :

جاءت أحداث القصة بسيطة ، مترابطة ، متنامية ، متسلسلة زمنياً، لولا العودة بالذاكرة إلى الوراء في مقاطع قصيرة منها ، وهي عودة استدعاها سياق الأحداث .

يبدأ الكاتب –الراوي- قصته بعودته إلى إحدى فنادق دمشق مرهقاً بعد مشوار طويل في شوارع المدينة القديمة ، يتناول مفتاح الغرفة ورسالة ، يقرأ الرسالة في غرفته ، فيجدها من شخص يدعى أبا صالح الذي يعد بالعودة في اليوم التالي ، يحاول أن يتذكر أبا صالح فتخونه الذاكرة ، قبل الموعد المحدد – السابعة مساء- يستبق الكاتب أبا صالح إلي صالة الفندق ليتحتم على أبي صالح التعرف عليه.

يأتي أبو صالح ويدور بينهما حوار ، يتعرف من خلاله الكاتب بأبي صالح ، وهو والد طالب كان قد علمه في المدرسة الثانوية بالقدس ، يعرف من الوالد أن صالحاً قد قتل في أول يوم من احتلال القدس ، وأن الأب قرر أن يلتحق بالثورة في عمان ثم في جنوب لبنان ، وأن أهله لا زالوا في عمان يرسل إليهم بين الحين والآخر بعض النقود مع العائدين إلى عمان .

ورغم بساطة الأحداث ، فقد ملأها الكاتب بالتغيرات العميقة في شخصية أبى صالح الإنسان العادي الذي حوله الحدث إلى مناضل والذي ارتقى في نضاله من ثأر لابنه إلى مناضل يحمل هموم القضية فالنضال يصقل مقاتليه . كما أعطى الكاتب في تكثيف دقيق ما حدث له هو من تغيرات أو ما حدث في داخله من إعصار.

q الأسلوب وطريقة العرض :

استخدم الكاتب لغة سردية بسيطة في مفرداتها و أساليبها ، غنية بدلالاتها ، خاصة في الجزء الأخير من قصته.

يبدأ الكاتب قصته بعودته إلى الفندق متأخراً فيسلمه موظف الاستقبال مفتاح الغرفة و معه ورقة مطوية ومشبوكة ( داخل حلقة المفتاح ) وهي إما سلوك عادي من موظفي الاستقبال أو إشارة إلى أهمية الرسالة، وأهمية أن تصل إلى مستقبلها ، ويقول الكاتب ( سحبت الورقة ودسستها في جيبي دونما حماس فقد كنت مقتنعا بأنها رسالة وضعها لي صديق جاء لزيارتي في الفندق ولم يجدني ) وهذا مؤشر سلبي على سلوكيات الكاتب ، ويبدو أنه أدرك ذلك فقدم تبريراً غير مقنع ( ثم إنني كنت مرهقا بعد مشوار طويل من السير على الأقدام ) .

ويقدم لنا مؤشراً آخر ، فقد اختار لإقامته فندقا رخيصا (كان مصعد الفندق عجوزاً وكثير العطب ) وتختلف كلمة (عجوزاً ) عن ( قديماً ) و( عجوز ) تشير إلى العجز وهي حالة جسدية وعقلية ونفسية تضاد القوة ، بينما (القدم ) تعبر عن بعد زماني ، والمصعد عجوز لأنه لم يعتن به ولم يصن . واختياره لمثل هذا الفندق يشير إما إلى ضعف وضعه المادي ( فهو يعمل معلماً ) أو حرصه أو كليهما . ولأن المصعد عجوز يُفضل الصعود إلى الدور الرابع على السلالم ، ذلك أن المصعد تعطل به في مرة سابقة ويخشى ألا يكون إصلاحه سهلا ( كما في المرة السابقة ) ونتساءل هل يعني الكاتب أن إصلاحه في المرة السابقة كان سهلا أم عكس ذلك ، والاحتمالان موجودان .

يقرأ الرسالة فيعرف أنها من رجل يدعى أبا صالح ، وأنه سيجدد زيارته في السابعة من مساء اليوم الثاني ويحاول جاهداً تذكر أبى صالح ، لكن عبثا ، يقول ( أي شيطان يقدر على بعث صاحب هذا الاسم في ذاكرتي ) ، وهو استخدام يوحي بقناعة الكاتب بان الشيطان قادر على ما لا يقدر عليه أحد ، واستخدم كلمة ( بعث ) التي تملك دلالات دينية – ليفيد المعنى نفسه- إحياء الاسم في الذاكرة ( القابلة لإضاعة أي شيء ) ويكمل للتخصيص ( حتى الأشياء الكبيرة ) ، ويقول وضعت الرسالة (جانباً ) وهو يبحث عن مرسلها ، ربما كان يعني أنه سيترك لذاكرته محاولة استعادة الاسم ، وكيف تكون المحاولة جادة ويائسة ،هل الإحساس باليأس يتلاءم مع الجد ؟ ، وكيف يصفه بالصديق وهو لا زال يجهله ، ربما لأنه لا زال يعتقد بأنه لابد أن يكون صديقاً له . ويبدو أنه قد بدأ يرتب أفكاره ويبحث عما ينشط الذاكرة ( تناولتها –الرسالة – مجدداً ، وحدقت في الخط ) ، وتعرف الإنسان من خطه تحتاج إلى معاشرة طويلة ، والإطلاع على الخط حتى يصبح لديه القدرة على تمييزه من غيره ، وربما كانت هذه الطرقة ناجحة لو تذكر أكثر من أبي صالح واحد ، وحاول أن يميز – عن طريق الخط – أيا منهم باعث الرسالة ، وربما كان

لطبيعة عمله كمعلم علاقة بتعرف الأشخاص من خطوطهم ، أو العكس فقد تتداخل الخطوط بحيث يصبح غير قادر على تمييزها ويبرر لنفسه محاولة التعرف على الشخص من خطه بقوله ( فلا مناص من أن يكون أبو صالح أحد الأصدقاء المقربين ) ولو كان ذلك لسهل عليه تذكره … وعندما لا يهتدي يقول ( تركت ، الورقة تسقط من يدي ) ، فهو لم يسقطها بل تركها تسقط فالأولى تشير إلى انه فقد الرغبة في التعرف عليه على الأقل من خلال خطه والثانية تشير إلى عدم حرصه على إبقائها عجزاً أو يأساً .

ويحاول التذكر بطريقة أخري ( حاولت أن أعطى جسدي قليلا من الاسترخاء ، وان اترك لذاكرتي مهمة إعادة ترتب الأشياء ) ، والاسترخاء يجعل العقل لا ينشغل بشيء إلا التفكير ، ويركز تفكيره في لحظات حاسمة من الاستغراق الحاد والتركيز المنظم ويصف اللحظات بأنها حاسمة والتي تعنى أما النجاح أو الفشل وسنجد فيما بعد أنها ليس حاسمة ، ويقول الاستغراق الحاد وكنا نفضل لو استبدل بالحاد كلمة الجاد

ويقول قررت أن أتناسى الموضوع ببعض المطالعة أقطع بها الوقت بحثا عن النوم وهو اتجاه سلبي يقدم لطلا بنا فالمطالعة غذاء عقلي وروحي وليست طريقا للنوم أو لقطع الوقت و( يتحول أبو صالح إلى شبخ يحوم حولي ويجردني من أية بادرة للاسترخاء أو الهبوط في هوة الفراغ المريح ) والشبح يبدو غير جلى، ويحوم تفيد تكرار الحدث واستمراريته ويصفه بأنه قوى قادر على تجريده من الاسترخاء ، والتجريد إزالة وتعرية وكأن بوادر الاسترخاء ملتصقة به فينتزعها منه والهبوط في هذه الفراغ المريح كناية عن النوم وقد يأتي في مواقف أخرى بمعنى الموت وكنا نفضل أن يعيد ترتيب عباراته لتصبحا يجردني من الهبوط في هذه الفراغ المريح أو حتى أية بادرة للاسترخاء حتى يكون التجريد من الكل أو حتى الجزء فلاسترخاء أقل من النوم درجة.

ويقول أحسست أن موجه من الأرق تغزو مفاصلي والأرق امتناع النوم ليلا وهو أمر لا يتعلق بالمفاصل بل بالدماغ الذي يصدر الأوامر لأعضاء الجسد إلا إذا قصد الكاتب أن الأرق دفعه للقيام والحركة لأنه يكمل (نهضت من فوري ) ويتخذ قرارا ( أن استعين بالقلم والورقة لتنظيم ذاكرتي وإعادة ترتيب الأسماء ) بعد أن فشل التذكر السريع أو الاسترخاء في استجلاب من هو أبو صالح ؟ويبدو أنه قادر على تصنيف الأسماء في حقول …يقول حاولت أن أحصر حقل المعارف والأصدقاء والجيران وكنا نفضل إعادة ترتيب المعطوفات (الجيران والأصدقاء والمعارف ) فهم أسهل في الحصر وأقرب للتذكير ويقول ( وكان لبالغ دهشتي إنني لم أجد أحدا يسمى أبا صالح ) وفى استخدامه ( لبالغ دهشتي ) إشارة إلي أنه كان يتوقع بصورة شبه يقينية أنه سيجده .

ويقول ( وظللت اغرق في هذه الدوامة جزءاً كبيرا من الليل وحتى الساعات القليلة التي غفوتها كـان ثمة كابوس يحلق فوقها ويمزق أوصالها اسمه أبو صالح ) فيستخدم الفعل الناقص ( ظل ) الذي يفيد الاستمرار مع الفعل المضارع (أغرق) الذي يفيد هنا استمرار الحدوث وكأنه في حالة غرق والدوامة حركة مستمرة لا يستطيع منها فكاكا وأغرق هنا افضل من غارقا إذ الفعل هنا يفيد الحدث واستمراره بينما اسم الفاعل يفيد وجود الصفة والتصاقها لا استمرارية حدوثها ونراه استخدم صورا مركبه لإبراز رؤيته وعندما غفي ، كان أبو صالح يمزق أوصال نومه ، و( أوصال ) مفردها ( وصل ) وتعنى المفاصل ونلاحظ أن الكاتب الذي أبدا عدم اهتمام بالورقة عندما تسلمها بالغ في إظهار تأثيرها بما احتوت عليه وهى مبالغه لا تتصف بالمنطقية وتقود القارئ إلى الملل أو تشعره بافتعال القصة وربما قصد الكاتب من ورائها إعطاء المؤشرات على أهمية أبي صالح واللقاء به .

ونجده يحتال في لقائه ليترك لأبى صالح المبادرة بالتعرف عليه فيسبقه في إلي صالة الفندق حتى يتحتم عليه أن يكون البادئ في التعرف على الكاتب ليعفى نفسه ( من مغبة الإحراج ) يقبل ( أبو صالح ) عليه وينهض لاستقباله مرحبا في محاولة للتظاهر بأنه يعرفه ونتساءل لماذا كل هذه السلوكيات لماذا لا يخبره مباشرة بأنه لا يذكره فهو هنا يبالغ أيضا في محاولة إيهام الرجل بمعرفته وكان طبيعيا أن يدرك أبو صالح ، ذلك . هذا ويبدو على الكاتب القدرة على التحليل فعندما يقول له أبو صالح أهلا بك يا أستاذ يروى لنا قائلا ( لم تقدني هذه العبارة إلى معرفة شيء جديد ولكن كلمة أستاذ جعلتني أعتقد أن الرجل ينظر إلي باعتباري معلما وبالتالي فقد يكون من حقل أولياء أمور الطلاب ) ويبدأ أبو صالح في اكتشاف عدم معرفة الكاتب له يقول (سبحان الله ألا تعرف أين أنا ؟ ) مستخدما أسلوبين للتعجب اسم الفعل والاستفهام ، بل ويستهجن ذلك (الكل يعرف أنى في الجنوب ) فالراوي أذن ليس من الكل وربما هي مؤشر على تغيب الكاتب عن الأحداث الهامة لبلده والذي سيظهر بعد ذلك.

وربما كانت تحمل مبالغة من جانب أبي صالح الذي اعتقد بأنه – بالتحاقه برجال المقاومة – أصبح علماً . يتفرس الكاتب في أبى صالح ( كان يبدو متعبا ولكنه صلب وحاد ) وهي تختلف في دلالتها عن (كان صلبا وحادا ولكنه يبدو متعبا ) ففي الأولى التعب هو البادي والظاهر وفى الثانية الصلابة والحدة أكثر بروزا.

ويجيب أبو صالح عن سؤال الكاتب ( كيف حالك ؟ ) قائلاً : ( نحن في أحسن حال وكما ترى لا وقت لدينا حتى لنسأل أنفسنا مثل هذا السؤال ) فالاهتمامات تختلف ، وللوقت قيمة أخرى ، وتوظيف أخر غير قتله في المجاملات. ويذكره أبو صالح بابنه صالح الوردانى الطالب في المدرسة الرشيدية في القدس ويتذكره الكاتب فهو طالب (نجيب جاد انطوائي مليء بالحزن والفقر والصمت ) وتتساءل عن العلاقة بين هذه المظاهر التي حددت شخصيته. وربما كان انطواؤه جزءاً منها ، ولعل اجتهاده كان بدافع من فقره .

ويتذكر الكاتب أنه رأى أبا صالح مرة أخرى في عمان يرتدي ملابس الفدائيين و ( كان يبدو وكأنه قد شاخ فجأة ) ، ويبادره الكاتب بالسؤال عن صالح ، ومرة أخرى يبدو الكاتب بعيداً عن الأحداث ، فصالح قد قتل ، ويعرض الكاتب صورة لأبي صالح ( اكفهرت ملامحه، وبدا كأنه يكابد موجة عارمة مـن الحزن والانقباض ) بل ويتحدث ( وهو يكاد يبكي )( لقد قتلوه ، ألم تعلم بأنهم قتلوا صالح ؟ )وفي سؤال أبي صالح اتهام للكاتب بالغياب عن هموم شعبه ، ويرى أبو صالح ألا ينطق باسم القتلة ، ربما لأن الفاعل معروف ، وربما – وهذا أقرب لشخصية أبي صالح – هم أحقر من أن يذكرهم بالاسم على لسانه…..

وعندما يتذكر مقتله ( اجتاحت الرجل ارتعاشة مفاجأة ، واختنق صوته بالنشيج ) ، فهو يعيش قصة وفاة ابنه ، ويدفنه في البيت – بسبب ظروف الحرب – ثم يرفض أن ينقله إلى المقبرة ، بعد أن انتهت الحرب - ويبقى يتراءى له واقفاً بانتظاره كل مساء حتى يفكر في تغيير منزله ، ولكنه يعدل عن ذلك ويقرر الالتحاق بالعمل الفدائي. وكأن الكاتب هنا يقدم لنا مؤشراً على التغير الحادث في شخصية أبي صالح، إذ تلاحقه صورة ابنه، وكأنها تدعوه للثأر، فيفكر في الهروب من هذه الصورة ، أو من الثأر، لكنه يعدل ويختار الثورة والنضال ، ويقدم لنا الكاتب تبريراً – مرفوضاً - لتقاعسه ومن شابهه ( الأيام لم تترك لنا شيئاً نتذكره ، إنه الركض الدائم وراء لقمة العيش ) ، فالحياة اليومية سلبتهم ذاكرتهم وتاريخهم وانتماءهم ، فهم يلهثون بحثاً عن لقمة العيش ، واستخدم الكاتب ضمير الجمع ( لنا ) ليشير إلى أنه ليس الوحيد الذي قتلته الأيام ، وجعل البحث عن لقمة العيش ( ركضاً ) للحصول عليها ، بل جعل الركض ( دائماً ) وراء لقمة العيش ، الراكضة بعيداً ، والصعبة المنال ، ويرفض أبو صالح تبرير الكاتب وخذلانه ، بل وانهزاميته فيتطلع إلى الكاتب ( وفي عينه إشفاق حقيقي ) ثم ابتسم ، وهي ابتسامة إشفاق أو حزن ، ابتسامة يملؤها الألم ، لا السعادة ، ويقول ( أ هكذا هي حياتكم حقاً ؟ ) وهو استفهام يحمل معاني الاستخفاف بهذه الحياة التي يراها تافهة ، لا قيمة لها .

ويقارن بين حياتهم وحياته ورفاقه ( نحن في الجنوب نواجه الموت في كل لحظة ولكننا مع ذلك نحيا حياتنا ) فلا يتحدث عن ذاته ، بل عنه ورفاقه ( نحن ) ولا يستعرض بثوريته ، ولكنه يشير إليها بتحديد المكان ( في الجنوب ) ، وهو يدرك أن الموت يتربص به ورفاقه ، ولكنهم يملكون القوة للتصدي لــه ، بل يبادرون إلى مقاتلته ( نواجه ) والمواجهة ليست دفاعاً فقط ، بل والفعل وأخذ المبادرة ، ورغم الموت الباحث عنهم ( في كل لحظة ) فهم يعيشـون حياتهم ، وكـأنه يقول أن ركضكم وراء لقمة العيش لـيس حياةً فهنـاك ما هو أهم ( معايشة البطولة والكرامة والعزة ) ، ويبين ما يقصده بـ ( نحيا حياتنا ) فيقول (حاضرنا كله امتلاء وعطاء ) يمتلئ بالبطولات ، بالتوجيه والتدريب ، والخلق ... وعطاء دائم ، والعطاء للآخرين ، وللوطن ، فالعطاء تجاوز للذات ، بل إن لهم فلسفتهم التي تغاير فلسفة غيرهم ، فالكل منا يعمل ليؤمّن مستقبلاً له ولأسرته ، لكنهم – المناضلين - يدركون أن الغد امتداد لليوم ، وأن ما يحققونه اليوم وما يصنعونه ، هو الذي سيحقق لهم المستقبل ، لذا فهم لا يشغلهم المستقبل ، بل يعيشونه في الحاضر، ويدرك أن ما يقوله أكبر من إدراك المعلم الراكض وراء لقمة العيش فيقول ( قد لا تصدق أن عائلتي التي ما تزال تعيش في عمان لا تشغل بالي أكثر من لحظات عابرة كل شهر ) ، فهو- بسبب انصهاره فيما هو أهم وأعظم لا تشغله أسرته البعيدة عنه كثيراً بل لحظات عابرة ، عندما يبحث عمن يحمل لها بعض النقود ، واستخدم بعض ليشير إلى القلة ، ولا نعتقد أنه نسي أسرته وأن شوقه لها قد زال ، بل بالمقارنة بين أسرته وما يصنعه ، جعل الأسرة في المرتبة الثانية لا الأولى ، وربما هذا هو الفرق بينه وبين الراوي.ويدرك الكاتب سبب بحث أبي صالح عنه ( لهذا جئت تبحث عني يا أبا صالح ) ، فيجيب ( نعم ، وقد عرفت أنك هنا بمحض الصدفة ، وأرجو ألا يضايقك ذلك ) وفي العبارة الكثير، فالمعرفة جاءت صدفة ، وكأنه يؤكد ما قاله ( لا تشغله أسرته كثيراً ) فهو لم يبحث بل عرف ( بمحض الصدفة ) ويدرك أبو صالح أن البعض لا يفضل حمل أموال وخلافه من المقاتلين لدواع ذاتية أو أمنية فيقول (أرجو أن ألا يضايقك ذلك)، ويشعرنا الكاتب بالتعاطف ، أو ببداية التغيير فيه ( بالعكس ، يسعدني جداً أن أقدم لك الخدمة التي تريد ) وتحمل الكلمات ( يسعدني جداً ) و ( لك ) و ( التي تريد ) رغبة أكيدة ، واحترام كبير لشخصية أبي صالح.

ويبرز الكاتب التغيير الحادث في أبي صالح ( قل لها – لزوجته – إن الثأر لصالح لم يعد يهمني كثيراً ، وليس هو الذي يدفعني لمواصلة القتال ، فالشباب من أمثال صالح يسقطون كل يوم على أرض الجنوب، نواريهم التراب ونواري معهم أحزاننا ، لا وقت لدينا للحزن ما دام الوطن هو الماضي، والحاضر، والمستقبل ) ، فهـو إن خـرج ثائراً لابنه إلا أنـه تعدى ذلك ، إلـى الالتحام التام بالوطن ، فالوطن هو الكل ( الماضي والحاضر والمستقبل ) ، والأحزان لم تعد أحزاناً فردية ، لفقيد هنا أو هناك ، فهموم الوطن أكبر من هموم الأفراد ، ونحن لا نحزن لأننا ندرك أننا نقدم ثمن المستقبل.

ويبدأ ريح التغير يعصف بالكاتب ، ويهز جموده ولامباليته، وركضه وراء اللاشيء إذ ينطلق الرجل بالقول: ( وأنا ما أزال أغرق في الذهول ) ، فاستيعاب الدرس ليس سهلاً واختمار التغيير يستوجب الذهول ، ويكمل ( أرنو إلى خطواته الواثقة ) ، و( أرنو ) تفيد إطالة النظر تقديراً وإعجاباً ، وخطواته الواثقة لأنها تعرف الطريق القويم ، ويكمل ( أحس أن زوبعة جارفة قد بدأت تثور من حولي كأنها الإعصار ) والزوبعة تثير الغبار وتحمله كعمود إلى السماء ، وهي جارفة تحمل ما في طريقها وترتفع به ، والإعصار ريح تثير السحاب ذات رعد و برق و أمطار ، و يقصد الكاتب أن أبا صالح غادره تاركاً فيه بذور الثورة التي بدأت تعصف بسكوته و استسلامه ، و هو لم يصل بعد إلى اتخاذ القرار فالزوبعة قد بدأت تثور ، و لم تنضج بعد ، و يقول ( تثور من حولي )و كنّا نفضل أن يستخدم ( تثور فيّ ) فهي أقوى في دلالتها على تأثير الزوبعة ، الإعصار .

هذا و نرى أن الكاتب استخدم لغة موحية و رمزاّ قريباً إلى القارئ ، و جاءت لغته بما احتوت من مفردات و تراكيب لغوية سهلة ، مألوفة ، و إن كانت غنية بالصور التعبيرية و الدلالات . و في الجزء الأخير من قصته نجح في إبراز الفروقات بين الإنسان العادي الذي يركض وراء لقمة العيش ، و ذاك الراكض وراء الوطن الذي أثقلته همومه و الذي تخطى ذاتيته ليندمج في الذاتية الأكبر و الأوسع و الأمد .

أما شخصيات القصة فكادت تنحصر في شخصيتين: الكاتب ،ذاك الإنسان العادي الهامشي ، الذي يقطع الشوارع حتى ساعة متأخرة من الليل لحنينه لمكان دراسته و الذي يهتم بذاتيته و أسرته وهو أيضاً الذي يؤثر فيه اللقاء فيعصف بسكونه . و أبي صالح الإنسان الذي رفض الهروب من المواجهة ( تغيير المنزل ) و اختار الانضمام إلى المقاومة بدافع ذاتي ( الثأر لابنه ) و الذي تصقله الثورة ، فيرتقي بنفسه و فكره و يرى هموم الوطن أكبر من همومه الفردية ، (الوطن هو الماضي و الحاضر و المستقبل ) ، و القادر على التأثير في الآخرين و زعزعة سكونهم و ذاتيتهم .

» الثامن-تحليل درس فتح طبرية - وأفكار رئيسية
» الثامن - زائر المساء - أسئلة مقترحة
» زائر المساء
» الجنة في القرآن - أفكار رئيسة
» زائر المساء - أسئلة مساعدة