تابع
قصيدة "رسالة من المنفى" وضوح الرؤية وحضور الموضوع
أصدر الشاعر الراحل محمود درويش ديوانه أوراق الزيتون عام 1964، ولم يكن الشاعر حينها يتجاوز الثلاثة والعشرين عاما من العمر الذي مر سريعا لكنه حافل، بلغت حصيلته الشعرية أربعة وعشرين ديوانا، غير تلك الكتب النثرية، التي عبرت كلها موزونها ومنثورها عن رؤى الشاعر وأفكاره عبر زمان امتلأ بكل ما يرفع التوتر العصبي والنفسي في كل نفس إنسانية، أبت مشاعرها الحية إلا أن تكون - كما كان الشاعر- حزينة.
ومع كل ذاك الحزن المستكن في نبرة الصوت وإحساس الجملة، كان الشاعر مُصِرّا على أن لا تنتهي قصيدته التي سكبها بقوالب من الحزن والأسى، حتى يرى وطنه حرا طليقا، ولكن النهاية وضعت حدا
قسريا لتك القصيدة، فانتهت بنيتها اللفظية واكتملت الدائرة الدرويشية، وانفتح الشعر على آفاق جديدة من الدراسة والتحليل والثبات عبر الزمن.
وعلى ذلك، ولغير مبرر أقف في هذا المقال عند قصيدة الشاعر "رسالة من المنفى"[1]، وهي إحدى قصائد ديوان أوراق الزيتون، تلك الرسالة/القصيدة التي شكلت رسالة إلى كل إنسان ذي حس مرهف ليلتفت إلى جزء مهم من معاناة المشرد الفلسطيني، وإن لم تكن القصيدة سياسية بالمعنى الحرفي للمصطلح، لكنها وبكل تأكيد هي نتاج سياسة دولية رمت بأشرعة الفلسطيني خارج وطنه ليصارع الأمواج العاتية والعواصف الهائجة، ليكون إنسانا بلا عَلَم وبلا وطن وبلا هوية، يبحث في معمعة ذلك عن قيمته الإنسانية أسوة بكل البشر.
وتشكلت هذه القصيدة من لبنات حياة التشرد ولهيب قسوة الغربة، أفرغها الشاعر على شكل "رسالة طويلة ذات خمسة فصول، تكشف عن الحياة خارج الأسوار لا داخلها، الحياة في المنفى، وبطلها عامل مشرد في مطعم يغسل الصحون ويصنع القهوة للزبون"[2]، كتبها الشاعر على لسان عامل في المنفى موجها رسالته لأمه، فالشاعر لما يسافر، ولما يهاجر بعد، ولكنه إحساس الشاعر مع تلك الشريحة من أبناء وطنه ممن ذاقوا المر، وهم يصرون على الحياة مهما استطاعوا إليها سبيلا.
ويعتبر د. محمد شحادة عليان في كتابه القيم "الجانب الاجتماعي في الشعر الفلسطيني الحديث" أن القصيدة "خير ما يدل على تمسك الفلسطيني بوجوده داخل الوطن"[3]؛ فهؤلاء المنفيون مرتبطون وجدانيا بوطنهم، يغمرهم حنين جارف، ومن جهة أخرى فإن القصيدة ترسم صورة للناس داخل أوطانهم، وكأنها تحثهم على الصمود والتشبث بكل تفاصيل ذلك الوطن بما فيه من تراب أو ثقافة وما عدا ذلك، فهؤلاء المشردون بصمودهم خارج الوطن ورسمهم لتلك المعاناة، يقدمون رسالة بليغة وذات مدلول حاد للتحذير من ترك هذا الوطن مهما جرى، من هنا يمكن أن نرى أن من يكادون يحصّلون الكفاف في غربتهم هم بخير ما دام لهم أهل مزروعين في الوطن، هذا ما جعل ذلك العامل/ كاتب الرسالة يقول لأمه في المقطع الخامس:
الليل - يا أمّاه - ذئب جائع سفاح
يطارد الغريب أينما مضى..
ماذا جنينا نحن يا أماه؟
حتى نموت مرتين
فمرة نموت في الحياة
ومرة نموت عند الموت!
يوظف الشاعر في قصيدته "رسالة من المنفى" أسلوب الرسائل، فترى فيها الكثير من عناصر الرسالة الإخوانية التي يوجهها الإنسان لقريبه ومن يعز عليه، فتبدأ الرسالة بالتحية والقبلة، سائلا المرسَل إليه/ أمه عن أحوال أفراد أسرته؛ عن أبيه وإخوته وأخواته وعن جدته، وكذلك فإنه يخبر أمه عن أحواله في الغربة، مبينا جانبا من معاناته، لكنه لا يظهر الضعف والوهن إنه بخير رغم كل شيء:
أنا بخير
أنا بخير
عندي رغيف أسمر
و سلة صغيرة من الخضار
ويحيل النص القارئ على ملمح تاريخي، حيث كان الشعب الفلسطيني بشقيه في الداخل والخارج يتواصل عن طريق المذياع، وقد استمرت هذه الظاهرة طويلا، وأنتجت كثيرا من البرامج الإذاعية، نذكر منها ما كان لوقت قريب يذاع عبر بعض الإذاعات العربية، من مثل برنامج "رسائل شوق" وبرنامج "خبرني يا طير"، وقد كانت هذه التقنية رحمة من هول الغياب لترحم بعضا من شقاء التغريبة الفلسطينية.
ويلجأ الشاعر في قصيدته إلى أسلوب السرد المناسب لأسلوب الرسالة، وهو مقتضى فني من مقتضياتها، منوعا بين الضمير المستخدم؛ فمرة يتحدث العامل عن نفسه مستخدما ضمير المتكلم، ومرة يخاطب أمه وذويه مستخدما ضمير المخاطب والمخاطبين، مكثرا الشاعر من أسئلته الاعتيادية التي تأتي في سياق طبيعي في النص الشعري، ليحصّل بها مجموعة من المعارف عن أهل بلدته، وخاصة فيما يتصل بعادات القرية وتقاليدها.
ويتكئ النص على التكرار للتعبير عن بعض الأفكار المصاحبة للمنظومة اللفظية، فقد تكرر في المقطع الأول السؤال التالي: "من أين أبتدي؟ وأين أنتهي؟" ليكشف للقارئ والمرسل إليه/ أمه على حد سواء عن حيرته، وهو يمارس فعل الكتابة، فالكلام كثير والشوق غلاب، فكيف ستكون البداية؟ وكيف يستطيع أن ينتهي إذا ما بدأ الكتابة، وأخذته شهوة الحديث للأهل وعن النفس؟، ومثل ذلك التكرار في جملة "أنا بخير" في المقطع الثاني التي تحيل إلى نوع من المفارقة المرة التي يفضح حقيقتها الواقعُ من قبلُ ومن بعدُ.
ومن الملامح الفنية الظاهرة في القصيدة تكرار الشاعر لمجموعة من الأساليب التركيبية، ليستطيع الشاعر أن يفرغ مشاعره المضطربة، فهو يسترسل في الحديث جاعلا التكرار الأسلوبي رابطا وثيقا لروح النص برباط تركيبي وثيق ليمنح النص تماسكا بنيويا، ومن ثَمَّ يعطي النص تماسكا على المستوى الدلالي، فقد تتابعت في النص الجمل الفعلية المنفية المعبرة عن الحنين تتابعا سلسا، يفيض بالإحساس المرهف والحزن الطافح:
وكل ما قيل وما يقال بعد غدْ
لا ينتهي بضمة أو لمسة من يدْ
لا يُرجع الغريب للديار
لا يُنزل الأمطار
لا ينبت الريش على
جناح طير ضائع منهدّْ
ويصوغ الشاعر أسئلته لذويه بالطريقة نفسها، فعندما يسأل عن والده يقول: "وكيف حال والدي؟" والسؤال نفسه عندما يسأل عن إخوته: "وكيف حال إخوتي؟" أو أخته: "وكيف حال أختنا؟" وجدته "وكيف حال جدتي؟"، وحتى التركيب نفسه في سؤاله عن البيت: "وكيف حال بيتنا؟"
إن الشاعر بصنيعه هذا قد جعل الجميع – جميع من سأل عنهم هنا – بمرتبة واحدة في الأهمية الوجدانية والمشاعرية، فكلهم سواء في النظرة والاهتمام، ويفكر فيهم بالطريقة نفسها، ولم يستثن الشاعر البيت الذي جعل السؤال عنه بالكيفية ذاتها ليدل على إحساس بأهمية البيت الذي جاء آخر المسؤول عنه، لتكون سلامة البيت عنوانا لسلامة كل أفراد الأسرة، التي يجمعها ظلال سقف هذا البيت، فهو رمز بقاء وثبات وحياة واستقرار واستمرار.
وبالتقنية ذاتها، فإنه يصوغ أسئلته عن نفسه بلغة يملؤها الأسى والحسرة؛ فالعامل الذي تغرب وعاش وحيدا، يخاف أن يموت في الغربة ولا يعرف عنه أحد، ولذا فإنه يوجه لأمه ولشجرة الصفصاف مجموعة من الأسئلة على نمط واحد:
هل تعلمين ما الذي يملأني بكاء؟
هبي مرضت ليلة... وهد جسمي الداء!
هل يذكر المساء
مهاجرا أتى هنا... و لم يعد إلى الوطن؟
هل يذكر المساء
مهاجرا مات بلا كفن ؟
يا غابة الصفصاف! هل ستذكرين
أن الذي رموه تحت ظلك الحزين
- كأي شيء ميت- إنسان؟
هل تذكرين أنني إنسان
و تحفظين جثتني من سطوة الغربان؟
إنه لربط مبكر وعجيب ربْطُ الشاعر في هذا المقطع ما بين أمه وشجرة الصفصاف، فكلتاهما توحدتا في حمل هم الإنسان المغترب، بل إن العامل الذي وجه رسالته لأمه، موجها لها هذه الأسئلة التي تنضح بالضعف الإنساني والحميمية، وأخص مَن يتفهم مشاعره هذه هي أمه، ومع احترام الشاعر لهذه العلاقة الوجدانية بينه وبين أمه، فإنه يقدم عذرها له؛ فهي بعيدة عنه، فكيف ستحميه من غدر الغادرين وشؤم عاديات السنين، وهنا وفي هذه اللحظة، يتذكر الصفصافة معادلا لأمه في غيابه وغيابها القسريين، طالبا من هذه الشجرة أن تمنحه الكرامة الإنسانية عندما يموت فتحمي جثته من سطوة الغربان.
وتصل الرسالة إلى نهايتها، فيعبر كاتبها عن شكه في إمكانية وصول هذه الرسالة، فقد "سدّت طريق البر والبحار والآفاق"، ولكنه يؤكد موقفه من القضية الإنسانية الكبرى التي حضرت عندما غاب العنوان؛ غاب العَلَم وغاب الوطن فغابت الهوية، وبالتالي فإن السؤال الذي أنهى فيه الرسالة أضحى مشروعا بلا أدنى ريب:
ما قيمة الإنسان
بلا وطن
بلا علم
ودونما عنوان؟
ما قيمة الإنسان؟
هذه كانت رسالة الشاعر، وقد أفلح إذ اختار لهذا المضمون الإنساني الشفيف الجمل القصيرة المتوترة المشحونة بتموجات العاطفة الإنسانية، لبناتها اللفظية وتراكيبها اللغوية قريبة من فهم العامة والبسطاء، وقريبة إلى فهم أمه التي أرسل إليها هذه الرسالة، ومناسبة لشخصية العامل، الذي تحدث بلغة تنضح من اليومي والعادي المتداول لتحوله إلى شعر فيه القيمة الفنية العالية، وهذه اللغة بهذه الكيفية تنتظم كل قصائد ديوان أوراق الزيتون، نابعة من تصور مذهبي فكري، حيث تحيل إلى ما كان يعتقده الشاعر وقتها من أهمية القصيدة المقاومة التي يفهم الناس البسطاء معانيها، فقد صرح الشاعر في هذا الديوان قائلا في قصيدة بعنوان "عن الشعر[4]:
قصائدنا بلا لون
بلا طعم... بلا صوتِ
إذا لم تحمل المصباح من بيت لبيتِ
وإن لم يفهم "البسطا" معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلدَ نحن... للصمتِ
ولذا فمن حق الشاعر صاحب الرسالة والقضية أن يكون واضحا، فعندما تغيب القضايا الكبرى، يفقد الشعر وضوحه، ويصبح همهمات ومتواليات لفظية لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تسد ثغرة في جدار البؤس العربي الممتد من المحيط إلى الخليج
الموضوع الأصلى:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]