|
الطب الحديث: هو خلاصة تطور الطب على مراحل متعددة و انتقاله من الطب التقليدي إلى الطب الحديث الذي يعتمد على دراسة دقيقة و مناهج تعليمية حديثة و ادوات طبية متطورة . ولكن ما زال الطب الحديث يعود لبعض المراجع الموجودة عند الطب التقليدي في تصنيع بعض الادوية . بعض الفروق بين الطب الحديث و الطب التقليدي : 1_الطب الحديث: تميز بالعمليات الجراحية و استخدام الاشعة والفحص المجهري و البحث و التحليل في الكشف عن المرض أو العل
|
|
الطب الحديث: هو خلاصة تطور الطب على مراحل متعددة و انتقاله من الطب التقليدي إلى الطب الحديث الذي يعتمد على دراسة دقيقة و مناهج تعليمية حديثة و ادوات طبية متطورة . ولكن ما زال الطب الحديث يعود لبعض المراجع الموجودة عند الطب التقليدي في تصنيع بعض الادوية . بعض الفروق بين الطب الحديث و الطب التقليدي : 1_الطب الحديث: تميز بالعمليات الجراحية و استخدام الاشعة والفحص المجهري و البحث و التحليل في الكشف عن المرض أو العل
|
الحدود بين ما هو طب وماليس بطب كانت محور عدة دراسات. ان انجازات الطب الغربي في القرن التاسع عشر (تخدير، تعقيم، تلقيح والمضادات الحيوية) وانتشاره بشكل موسع في أنحاء العالم جعله الطب النمطي على الرغم من بقاء العلاجات الأخرى. وهذا ما يفسر رفض المعاهد الغربية الاعتراف بالطب التقليدي الأربي والغير أربي، الصيني والعربي وغيره. لكن مع نهاية القرن العشرين وظهور مقاومة المضادات الحيوية وبعض الفيروسات المستغصية والامراض الغير قابلة للعلاج، عاد للطب التقليدي بعض الاعتراف. ويظهر ذلك في عودة هذا النوع من الطب إلى جانب الطب الحديث في أوروبا مثل الوخز بالابر الصينية والعلاج بالأعشاب. وكذلك مع نهاية القرن العشرين وبظهور مفهوم العولمة رأى هذا الطب التقليدي طريقه إلى النور’ ويبدو ذلك جليا في وضع منظمة الصحة العالمية عام 2002 م استراتيجيتها الأولى العامة للطب التقليدي أو البديل
|
الطب الحديث: هو خلاصة تطور الطب على مراحل متعددة و انتقاله من الطب التقليدي إلى الطب الحديث الذي يعتمد على دراسة دقيقة و مناهج تعليمية حديثة و ادوات طبية متطورة . ولكن ما زال الطب الحديث يعود لبعض المراجع الموجودة عند الطب التقليدي في تصنيع بعض الادوية . بعض الفروق بين الطب الحديث و الطب التقليدي : 1_الطب الحديث: تميز بالعمليات الجراحية و استخدام الاشعة والفحص المجهري و البحث و التحليل في الكشف عن المرض أو العل
|
تطور الطب
[b]لم تشهد بلاد الشام في القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين) ما شهدته بقية العواصم الإسلامية من ازدهار في العلوم الطبية ومباحثها. فالقرن الثالث كادت تستأثر بمظاهر الازدهار فيه بغداد عن سواها، نتيجة نشاط بيت الحكمة فيها، وتواصل هجرة الجنديسابوريين إليها، وهي هجرة كانت قد بدأت في القرن الثاني. أما في القرن الرابع فقد عمت مظاهر الازدهار عواصم أخرى، وخاصة قرطبة والقيروان في بلاد المغرب. وقد شهدت تلك الحركة العلمية تقلصاً في القرن الخامس قد شمل ـ ما عدا بلاد الأندلس ـ معظم البلاد الإسلامية. ثم استعادت في القرنين السادس والسابع الهجريين (الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين) مدها كأشد ما تكون، ليس من حيث عدد الأطباء الممارسين فحسب بل من حيث تنظيم المهنة وكثرة المؤسسات الاستشفائية وأحكام الإشراف عليها وتسييرها.
ولو أردنا إيجاز أهم ما تميزت به هذه الفترات كلها من تاريخ الطب في البلاد العربية الإسلامية لقلنا إن القرن الثالث الهجري كان عصر الترجمة، وإن القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس كان عصر ظهور المؤلفات الكبرى في الطب، مثل "الحاوي في الطب" لأبي بكر محمد بن زكرياء الرازي، و"زاد المسافر" لأبي جعفر أحمد بن الجزار، و"الكامل في الصناعة الطبية" لعلي بن عباس الزهراوي، و"القانون في الطب" لأبي علي الحسن بن سينا. أما القرنان السادس والسابع فقد مثلا عصر التطبيق لما انتهت إليه المعارف العربية الإسلامية في مجال الطب، فقلَّت التآليف الطبية المبتكرة وكثرت الشروح للمؤلفات السابقة، وأنشئت المدارس لتعليم الطب والبيمارستانات للمعالجة ومتنت صلة السلطة السياسية بالعلم الطبي. وقد كانت بلاد الشام طيلة هذه الفترة الأخيرة ـ وخاصة في القرن السابع ـ عاصمة البلاد الإسلامية بحق في مجال الطب، لا تضاهيها بلاد إسلامية أخرى فيما وصلت إليه من تطور في الممارسة الطبية، رغم ما عرفته في هذه الفترة من الحروب، وخاصة الحروب الصليبية. وغايتنا الأساسية من هذا البحث هي استجلاء المظاهر الأساسية الدالة على ذلك التطور، إسهاماً منا في إبراز الدور الذي قامت به هذه البلاد المباركة في تطوير العلوم العربية والإسلامية.
ـ هجرة الأطباء إلى بلاد الشام:
لقد كانت بلاد الشام ـ وخاصة مدينة دمشق ـ مقصودة يشد إليها الأطباء الرحال. وهي ظاهرة تدل على المنزلة التي كانت تتميز بها عن سواها من البلاد الإسلامية في نظر الأطباء. ويبدو أن ذلك التميز لم يكن بسبب ما كان الأطباء يأملونه من حظوة وتشجيع في بلاد الشام فقط بل بسبب رخاء العيش فيها. فقد روى لنا القفطي عن الطبيب الأندلسي أبي الحكم عبد الله بن المظفر المرسي القصة التالية: "فارق [العراق"> على نية قصد المغرب. فلما حل بظاهر دمشق سيَّر غلاماً له ليبتاع منها ما يأكلونه في يومهم، وأصحبه نزراً يكفي رجلين. فعاد الغلام ومعه شواء وفاكهة وحلواء وفقاع وثلج. فنظر أبو الحكم إلى ما جاء به وقال له عند استكثاره: أوجدت أحداً من معارفنا؟ فقال: لا، وإنما ابتعت هذا بما كان معي، وبقيت منه هذه البقية. فقال أبو الحكم: هذا بلد لا يحل لذي عقل أن يتعداه ودخل، وارتاد منزلاً سكنه، وفتح دكان عطر يبيع به العطر ويطب (1).
ولقد كانت هجرة الأطباء إلى بلاد الشام قوية بالقياس إلى ذلك العصر ونظراً لظروف الحرب التي كانت البلاد تمر بها. وقد كانت الهجرة إليها من أصقاع شتى، وخاصة من بلاد المغرب والأندلس والعراق. ومن أشهر الأطباء المغاربة الوافدين الذين كان لهم تأثير في تطوير المباحث الطبية نذكر أبا الحكم السابق ذكره (ت. 549 هـ 1154 م) (2). وقد جاء دمشق من العراق بعد سنة 521 هـ / 1127 م وقد كان لأبي الحكم ابن قد نبغ هو أيضاً في الطب واشتغل به في دمشق، هو أفضل الدولة أبو المجد محمد بن أبي الحكم (عاش في القرن السادس) (3)، وأبا جعفر عمر بن علي بن البذوخ القلعي (ت. 576 هـ / 1180 م) (4)، وأبا الفضل عبد المنعم بن عمر الأندلسي (ت. حوالي 620 هـ / 1223 م) (5)، وقد جاء دمشق قبل سنة 569 هـ / 1173 م. وأبا زكرياء يحيى بن إسماعيل البياسي الأندلسي (عاش في القرن السادس) (6)، وقد جاء دمشق بعدإقامة في القاهرة، ويوسف بن يحيى بن إسحاق السبتي الفاسي (ت. 623 هـ / 1226 م) (7)، وقد كانت إقامته في حلب، وأبا محمد عبد الله بن أحمد بن البيطار المالقي (ت. 646 هـ / 1226 م) (8)، ويبدو أن أول مجيئه إلى دمشق ـ من القاهرة ـ كان سنة 633 هـ / 1235 م، وبدمشق كانت وفاته، وقد كانت الصيدلة أغلب عليه من الطب ولذلك كان يعشِّب في معظم أنحاء بلاد الشام. وأما الأطباء الوافدين من العراق فنذكر منهم بالخصوص نجم الدين أبا الفتوح أحمد بن محمد ابن السري (ت. حوالي 543 هـ / 1148 م) (9)، ومهذب الدين أبا الحسن علي بن عبد الله النقاش (ت. 574 هـ / 1178 م) (10)، وفخر الدين أبا عبد الله محمد بن عبد السلام المارديني (ت. 594 هـ / 1197 م) (11)، على أن أصل أجداد المارديني هذا من بيت المقدس، وقد جاء بلاد الشام سنة 587 هـ / 1191 م وبقي بها أربع سنوات، سنتين في دمشق التي غادرها في سنة 589 هـ / 1193 م، وسنتين في حلب التي غادرها إلى ماردين سنة 591هـ 1193م، وموفق الدين أبا محمد عبد اللطيف بن يوسف البغدادي (ت. 629 هـ / 1231 م) (12)، الذي جاء بلاد الشام من مصر، وأقام بدمشق وحلب وبيت المقدس ورجع إلى بغداد حيث كانت وفاته، ورضي الدين أبا الحجاج يوسف بن حيدرة الرحبي (ت. 631 هـ / 1233 م) (13)، وقد جاء دمشق مع والده فاستقر بها، بعد إقامة في بغداد وفي القاهرة، وقد أنجب هذا الطبيب ابنين كان لهما هما أيضاً دور متميز في المباحث الطبية في دمشق خاصة، وهما جمال الدين عثمان بن يوسف الرحبي (ت. 658 هـ / 1260 م) (14)، وهذا قد أنهى حياته في مصر التي هاجر إليها عندما دخل التتار بلاد الشام، وشرف الدين أبو الحسن علي بن يوسف الرحبي (ت. 667 هـ / 1268 م) (15)، وقد كان مولد هذين الطبيبين ومنشؤهما في دمشق.
هؤلاء أحد عشر طبيباً من الأطباء اللامعين قد هاجروا إلى بلاد الشام وخاصة إلى دمشق، وقد كانت هجرة معظمهم في القرن السادس وكانت إقامة جلهم نهائية، وخاصة في دمشق، ولا نعرف عاصمة إسلامية غير دمشق قد استقطبت في القرن السادس مثل هذا العدد من الكفايات الطبية. انطلاقاً من ذلك فإنه يحق لنا أن نقول بدون مبالغة إن دمشق كانت أهم عاصمة علمية إسلامية في القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي تستهوي الأفئدة فيميل إليها الأطباء ويقصدونها.
ـ منزلة الطب والأطباء
لقد حظي الأطباء والطب عامة بمنزلة رفيعة في بلاد الشام في القرنين السادس والسابع الهجريين. ولابد من الثناء هنا على الدور المهم الذي كان للملوك والأمراء الأيوبيين في ذلك. ومن أهم أصحاب الدلائل على رفعة تلك المنزلة:
أ ـ استصحاب الملوك الأطباء واصطفاؤهم لخدمتهم. فقد كان كل ملك يصطفي لخدمته ولخدمة القصر عدداً كبيراً من الأطباء قد يبلغ الخمسة عشر طبيباً، منهم من يرافقه في حله وترحاله، والطبيب يُختار عادة لشهرته وجودة ممارسته. ونطاق هذه المحاضرة يضيق عن تعداد الأطباء الممتازين الذين صحبوا الملوك.
ب ـ اهتمام أمراء الأقاليم باستصحاب الأطباء أيضاً. ولم يكن هؤلاء أقل قيمة وشهرة من الأطباء الذين يصحبون الملوك. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر هنا مهذب الدين يوسف بن أبي سعيد السامري (ت. 624 هـ / 1227 م) (16) الذي خدم بالطب أميري بعلبك عز الدين فخر شاه الأيوبي وابنه مجد الدين بهر شاه (ت 628 هـ / 1230 م) والطبيب أبا الثناء سديد الدين محمود بن عمر بن رقيقه (ت / 635 هـ / 1237 م) (17) (ت. 578 هـ / 1182 م) الذي خدم بالطب أمير حماه المنصور ناصر الدين محمد بن تقي الدين الأيوبي (ت. 617 هـ / 1220 م)، والطبيب سيف الدين أبا الحسن علي بن محمد الآمدي (ت. 636 هـ / 1238 م) (18) الذي خدم نفس الأمير السابق، ناصر الدين صاحب حماة، والطبيب أبا الحسن بن غزال بن أبي سعيد (ت. 648 هـ / 1250 م) (19) الذي خدم بالطب أمير بعلبك مجد الدين بهرام شاه ثم من بعده أمير دمشق عماد الدين إسماعيل بن أبي بكر الأيوبي (ت. 648 هـ / 1250 م)، والطبيب نجم الدين أبا زكرياء يحيى بن محمد اللبودي (ت. بعد 666 هـ / 1276 م) (20)، الذي خدم أمير حمص إبراهيم بن أسد الدين شيركوه (ت. 643 هـ / 1245 م) والطبيب المؤرخ موفق الدين أبا العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن أبي أصيبعة (ت. 668 هـ / 1270) (21) الذي خدم بداية من سنة 634 هـ / 1236 م أمير صرخد عز الدين أيدمير بن أيبك (ت 648 هـ 1250 م) قبل أن يصبح ملك مصر سنة 647 هـ / 1249 م.
ولقد كان أولئك الملوك هؤلاء الأمراء جميعاً يصطحبون الأطباء ويقربونهم إليهم دون أي اعتبار لعقائدهم، ولذلك كان من بين الأطباء المقربين عدد من اليهود والمسيحيين الذين لقوا حظوة كبيرة سواء في مصر أو في بلاد الشام، وقد كان ذلك في عصر أعمت فيه العصبية الدينية أوروبا فأتت بلاد الشام نفسها تشن عليها الحرب باسم الصليب.
ج ـ تقليد الأطباء الوزارة: كثيراً ما كان الملوك والأمراء يفوضون إلى أحد الأطباء المقربين منهم والموثوق بأمانتهم أمور الدولة وأحوالها ويعتمدون عليه في تصريف شؤونها. وقد تصل تلك الثقة إلى درجة أن يقلد الطبيب الوزارة. ونعرف من الأطباء الذين حظوا بهذه المنزلة فقلَّدوا الوزارة أربعة، هم فخر الدين رضوان بن الساعاتي (توفي في النصف الأول من القرن السابع) (22) الذي استوزره أمير دمشق عيسى بن الملك العادل الأيوبي (ت. 624 هـ / 1227 م)، ومهذب الدين يوسف بن أبي سعيد السامري الذي استوزره أمير بعلبك مجد الدين إسماعيل بن أبي بكر الأيوبي، ونجم الدين أبو زكرياء يحيى اللبودي الذي استوزره أمير حمص إبراهيم بن أسد الدين شيركوه.
د ـ كثرة عدد الأطباء: لقد كانت تلك الظروف كلها ملائمة لخلق بيئة علمية حقيقية تزدهر حيزها العلوم الطبية ومباحثها ويتكاثر ـ نتيجة لذلك ـ عدد أصحاب الصناعة الطبية. ولقد أحصينا الأطباء الذين عُرفوا في القرنين السادس والسابع الهجريين اعتماداً على التراجم التي أوردها ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء" ولسيان لكلرك في "تاريخ الطب العربي" لأطباء بلاد الشام ـ وهما لم يُترجما إلا لمن اشتهر أمره، ولاشك أن كثيرين ممن عاش في القرى والأماكن النائية عن العواصم الكبرى لم يذكروا فوجدنا عدداً لا يستهان بكثرته، وخاصة في القرن السابع. فقد اشتهر في القرن السادس قرابة العشرين طبيباً.
أما القرن السابع فقد تضاعف فيه هذا العدد مرتين ليبلغ خمسة وستين طبيباً (23)، جلهم من بلاد الشام مولداً ومنشأ وإقامة وقليل منهم كانوا من الوافدين الذي أقاموا فترة من الزمن فقط، إلا أنهم هم أيضاً كانت لهم مشاركة في الصناعة الطبية، وخاصة في المعالجة وفي التدريس. ولابد من الإشارة إلى أن هذا العدد من الأطباء ـ الذين يضيق مجال هذا البحث عن تعدادهم، ونكتفي بإحالة الراغب في الاستقصاء على المصدرين اللذين اعتمدنا ـ قد اختصت به بلاد الشام عن سواها من البلدان العربية الإسلامية طيلة تاريخ الطب العربي، ذلك أننا لا نعرف أي بلد إسلامي آخر قد ظهر في قرن من القرون الممتدة ما بين الثالث والتاسع الهجريين ما ظهر من الأطباء في القرن السابع في بلاد الشام، رغم خلوها من ذلك العهد من عاصمة سياسية مركزية، ولا تدانيها في عدد أطبائها ذلك إلا العراق والأندلس في القرن الرابع الهجري، فقد كان عدد الأطباء في العراق في القرن الرابع اثنين وأربعين طبيباً، وكان عددهم في الأندلس خمسة وثلاثين.
3 ـ المؤسسات الاستشفائية:
لقد سبق للمرحوم أحمد عيسى (ت 1946 م) في كتابه القيم "البيمارستانات في الإسلام" أن قام بإحصاء البيمارستانات في الإسلام" الموجودة في بلاد الشام والحديث عنها (24)، اعتماداً على مصادر عديدة. والبيمارستانات التي أنشئت في بلاد الشام في القرنين السادس والسابع تسعة منها ثلاثة بمدنية دمشق وحدها، وهي: "البيمارستان الصغير" و"بيمارستان باب البريد"، ولا نعرف بالضبط سنة إنشاء هذين البيمارستانين، والثالث هو "البيمارستان الكبير النوري" وقد أنشأ هذا المستشفى الملك نور الدين محمود بن زنكي (ت. 569 هـ / 1127 م)، ومنها بيمارستان حلب ويسمى "النوري" أيضاً نسبة إلى منشئه الملك نور الدين محمود بن زنكي، ومنها بيمارستان حماة، وقد كان قائماً سنة 580 هـ / 1184 م، وبيمارستان القدس ويسمى أيضاً "البيمارستان الصلاحي" نسبة إلى منشئه صلاح الدين الأيوبي (ت 589 هـ / 1193 م) بعد أن فتح القدس سنة 583 هـ 1188 م، بيمارستان عكا الذي أنشأه صلاح الدين الأيوبي أيضاً سنة 584 هـ 1189 م، وبيمارساتان الصالحية ويسمى القيمرية أيضاً نسبة إلى منشئه سيف الدين أبي الحسن علي بن يوسف القيمري (ت. 653 هـ / 1255 م) أكبر أمراء القيامرة، وبيمارستان الجبل بقرية نيرب قريباً من دمشق، قد أنشئ في النصف الأول من القرن السابع، ولا ندري من أنشأه.
تلك هي المؤسسات الاستشفائية التي انتهى إلى علمنا وجودها في بلاد الشام في القرنين السادس والسابع الهجريين، إلا أننا لا نشك في أن بيمارستانات أخرى كانت موجودة أيضاً في بعض المدن الكبيرة الأخرى مثل حمص وبعلبك وصرخد التي سبق أن رأينا أمراءها يخصون الأطباء بصحبتهم، يضاف إلى ذلك أن نور الدين محمود بن زنكي كان قد بنى بيمارستانات كثيرة، فقد قال عنه ابن الأثير: وبنى المدارس الكثيرة والجوامع والبيمارستانات" (25). ويبدو أن صلاح الدين الأيوبي من بعده كان قد سار نفس السيرة.
على أن البيمارستان الأكثر شهرة هو البيمارستان النوري الكبير بدمشق ويبدو أنه كان بمثابة ما يسمى اليوم بالمستشفى المركزي، بالقياس إلى ما يوجد من بيمارستانات في بقية المدن، فهذه كانت بمثابة المستشفيات الجهوية. ولعل أهم ما يدل على أهمية هذا البيمارستان في ذلك العصر أحكام التنظيم فيه، وكثرة الأطباء الذين مارسوا التطبيب.
أما عن التنظيم فقد كان البيمارستان مشتملاً على أقسام مرتبة لكل منها أطباؤها المختصون وفوَمته والمشرفون عليه، والأقسام الطبية فيه أربعة هي قسم للأمراض الباطنية وقسم للجراحة وقسم الكحالة (أمراض العين) وقسم التجبير. وقد كان قسم الأمراض الباطنة بدوره مقسماً إلى قاعات، وقد وجدنا عند ابن أبي أصيبعة إشارة إلى اثنتين منها هما قاعة الممرورين أي الذين بهم جنون سبعي (26) وقاعة المحمومين (27). ويمكن أن نضيف إلى هذه الأقسام الأربعة ثلاثة أقسام أخرى متممة هي قسم ما يسمى اليوم بالعيادات الخارجية، فقد ذكر ابن أبي أصيبعة عن الطبيب رضي الدين الرحبي أنه كان يجلس على دكة ويكتب لمن يأتي إلى البيمارستان ويستوصف منه للمرضى أوراقاً يعتمدون عليها ويأخذون بها من البيمارستان الأشربة والأدوية التي يصفها" (28)، وقسم الصيدلية، يشتغل فيها الصيادلة بإعداد الأدوية من أشربة ومعاجين وأقراص وغيرها وبصرف الأدوية إلى المرضى، وأخيراً قسم المكتبة والتدريس، ومكانه في إيوان البيمارستان. فقد ذكر ابن أبي أصيبعة عن الطبيب أبي المجد بن أبي الحكم أنه كان يجلس في الإيوان الكبير الذي للبيمارستان وجميعه مفروش، ويحضر كتب الاشتغال. وكان نور الدين رحمه الله قد وقف على هذا البيمارستان جملة كبيرة من الكتب الطبية، وكانت في الخرستانين اللذين في صدر الإيوان فكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه ثم تجري مباحث طبية ويقرئ التلاميذ، ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة ونظر في الكتب مقدار ثلاث ساعات (29).
أما الأطباء الذين اشتغلوا بالصناعة في البيمارستان النوري طيلة الفترة التي تعنينا فقد حاول أحمد عيسى تعدادهم (30)، والعدد الذي انتهى إليه الأطباء الذين عملوا بالبيمارستان مدة قرن من الزمن (من حوالي 560 هـ / 1165 م إلى حوالي 670 هـ / 1271 م يبلغ واحداً وعشرين طبيباً، وهو بدون شك عدد منقوص ونكتفي هنا بالإشارة إلى أربعة من الأطباء المشهورين الذين عملوا بالبيمارستان ولم يذكرهم وهم أبو المجد محمد بن أبي الحكم (31) ـ وقد سبقت الإشارة إليه ـ وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز السلمي (ت. 644 هـ / 1246 م) (32) ـ وقد تولى رئاسة الطب في دمشق (33) ـ والقاسم بن خليفة بن أبي أصيبعة (ت. 649 هـ / 1250 م) وقد قال عنه ابنه الطبيب المؤرخ:
".. ويتردد أيضاً إلى بيمارستان نور الدين الكبير وله الجامكية والجراية والناس يقصدونه من كل ناحية لما يجدون في مداواته من سرعة البرء وأن أمراضاً كثيرة مما تكون مداواتها بالحديد يبرئها بذلك على أجود ما يمكن ومنها ما يعالجها بالأدوية ويبرئها بها ويستغني أصحابها عن الحديد" (34)، وقد كان اختصاصه الكحالة، والطبيب الرابع هو أبو العباس أحمد بن القاسم بن أبي أصيبعة، صاحب "عيون الأنباء" فقد قال عن نفسه "وكان لي أيضاً في ذلك الوقت [أي حوالي سنة 632 هـ / 1234 م"> مقرر جامكية وجراية لمعالجة المرضى في هذا البيمارستان (أي النوري)" (35).
على أن البيمارستانات التي ذكرنا لم تكن المؤسسات الاستشفائية الوحيدة في بلاد الشام. فلقد كان الأطباء يقومون بالمعالجة خارجها أيضاً. وأهم المواضع الاستشفائية الأخرى أربعة وهي: القصور السلطانية والأميرية حيث كانت تعالج العائلات الملكية، ثم القلاع حيث كان يعالج أعيان الدولة والحاشية، ثم المعسكرات حيث كان يعالج الجند، وقد كان الأطباء المباشرون في هذه المواضع الثلاثة من الذين يستصحبهم الملوك والأمراء لخدمتهم، والموضع الرابع هو العيادة الخاصة. فقد كان الأطباء ـ وخاصة ممن لا يباشرون في البيمارستانات ـ عيادات خاصة يستقبلون فيها المرضى، ونكتفي بالإشارة إلى مثالين اثنين هما أبو جعفر عمر بن علي بن البذوخ وقد كانت له دكان عطر باللبادين (في دمشق) يجلس فيها ويعالج من يأتي إليه أو يستوصف منه، وكان يهيئ عنده أدوية كثيرة مركبة يصنعها من سائر المعاجين والأقراص والسفوفات وغير ذلك" (36) وأبو الفضل عبد المنعم بن عمر الأندلسي وقد كانت له دكان في اللبادين لصناعة الطب" (37).
بقي أن نشير إلى أن المباشرة في مختلف المؤسسات الاستشفائية ـ ما عدا العيادات الخاصة ـ وكذا في مناصب التدريس كانت وظيفة تنظمها الدولة، إذ كان الأطباء يُدعون إليها بقرارات ملكية أو أميرية، ولم تكن أجور الأطباء على أدائهم وظائفهم موحدة المقادير بل كانت متفاوتة بحسب المنزلة التي يتنزلها الطبيب في البيمارستان أو في القصر. على أن الأطباء الذين يباشرون وظائف مختلفة يتقاضون أجوراً على مختلف الوظائف. ولنا على ذلك مثال عز الدين أبي إسحاق إبراهيم بن السويدي (ت. 690 هـ / 1291 م) (38)، فقد كان طبيباً مباشراً في البيمارستان النوري وفي بيمارستان باب البريد وفي القلعة، وكان مدرساً في المدرسة الدخوارية، وكان يتقاضى على هذه الوظائف الأربع أربعة مرتبات (39)
ـ التعليم الطبي ومؤسساته:
لقد كان تعليم الطب في بلاد الشام من أهم مظاهر تطور العلوم الطبية ومباحثها في القرنين السادس والسابع الهجريين، وماكثرة الأطباء المشهورين المباشرين في ذلك العصر إلا نتيجة لذلك. وقد كانت المؤسسات التعليمية كثيرة، وأهم أنواعها الأربعة:
أ ـ المدارس: وأهم مدرسة نظامية انتهى إلى علمنا وجودها هي المدرسة الدخوارية، نسبة إلى مؤسسها مهذب الدين عبد الرحيم بن علي الدخوار. فقد كان هذا العالم الجليل سنة 622 هـ / 1225 م قد "وقف داره وهي بدمشق عند الصناعة العتيقة شرقي سوق المناخليين ـ وجعلها مدرسة يدرس فيها من بعده صناعة الطب، ووقف لها ضياعاً وعدة أماكن يُستغل منها ما ينصرف في مصالحها وفي جامكية المدرس وجامكية المشتغلين بها" (40).
وقد فتحت هذه المدرسة أبوابها رسمياً أثر وفاة الدخوار يوم 12 ربيع الأول سنة 628 هـ 18 فيفري 1230 وقد كان أول أستاذ للطب فيها ـ بتوصية من الدخوار نفسه ـ شرف الدين أبا الحسن علي بن يوسف الرحبي، وقد تواصلت مدة تدريسه فيها حوالي عشر سنوات 628 هـ / 1210 م ـ 637 هـ / 1239 م ثم خلفه سنة 637 هـ بدر الدين المظفر ابن قاضي بعلبك (ت. 670 هـ / 1271 م) (41)، وذلك أنه لما ملك دمشق الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين ممدود ابن الملك العادل كتب للحكيم بدر الدين ابن قاضي بعلبك منشوراً برئاسته على سائر الحكماء في صناعة الطب وأن يكون مدرساً للطب في مدرسة الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي، وتولى ذلك في يوم الأربعاء رابع صفر سنة سبع وثلاثين وستمائة (42). ثم درس من بعده عماد الدين الدنيسري (ت. 686 هـ / 1287 م) ثم محمد بن عبد الرحيم بن مسلمة (ت 697 هـ / 1297 م) ثم أحمد بن عبد الله بن الحسين الأشقر (ت 694 هـ / 1294 م) (43). على أننا لا نعرف نظام الدراسة والمواد التي كانت تدرس في هذه المدرسة التي يحق لها أن تعتبر أول كلية للطب في بلاد الشام.
ب ـ البيمارستانات: حيث كان الأطباء المباشرون يعقدون حلقات الدرس مع تلاميذهم والأطباء المشتغلين عليهم. والدروس المقدمة في هذه الحلقات نظرية أساساً. وقد حدثنا ابن أبي أصيبعة عن إحداها وهي حلقة أبي المجد : "... ويجلس في الإيوان الكبير الذي للبيمارستان (النوري بدمشق) وجميعه مفروش ويحضر كتب الاشتغال. وكان نور الدين [بن الزنكي"> رحمه الله قد وقف على هذا البيمارستان جملة كبيرة من الكتب الطبية وكانت في الخرستانين اللذين في صدر الإيوان فكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه ثم تجري مباحث طبية ويقرئ التلاميذ. لا يزال معهم في اشتغال ومباحثه ونظر في الكتب مقدار ثلاث ساعات. ثم يركب إلى داره" (44).
على أن صنفا ثانياً من التعليم ذا منزع تطبيقي محض كان يمارس في البيمارستان أيضاً، وهو ما يمكن تسميته بالتعليم السريري يقوم به الأطباء المشرفون بمحضر الطلبة والأطباء المباشرين تحت الإشراف. والمادة المنطلق منها في هذا الصنف الثاني هم المرضى المقيمون في البيمارستان. ومثال هذا الصنف من التعليم ما حدثنا به ابن أبي أصيبعة عن أستاذه مهذب الدين عبد الرحيم الدخوار ـ وقد كان هو نفسه بين الحاضرين ـ : "رأيته يوماً في قاعة المحمومين وقد وقف عند مريض، وجسَّت الأطباء نبضه فقالوا عنده ضعف ليعطى (كذا) مرقة الفروج للتقوية. فنظر إليه وقال ما كلامه ونظر عينيه يقتضي الضعف، ثم جس نبض يده اليمنى وجس الأخرى، وقال: جسوا نبض يده اليسرى، فوجدناه قوياً: فقال: انظروا نبض يده اليمنى وكيف هو من قريب كوعه قد انفرق العرق الضارب شعبتين، فواحدة بقيت التي تجس والأخرى طلعت في أعلى الزند وامتدت إلى ناحية الأصابع، فوجدناه حقاً. ثم قال: إن من الناس وهو نادر من يكون النبض فيه هكذا، ويشتبه على كثير من الأطباء ويعتقدون أن النبض ضعيف، وإنما يكون جسهم لتلك الشعبة التي هي نصف العرق، فيعتقدون أن النبض ضعيف" (45) وهذه الطريقة ـ كما نرى من هذا المثال ـ قائمة على الملاحظة والتجريب والتشخيص.
ج ـ الدور السلطانية: فقد كان الملوك ـ فيما يبدو ـ يتيحون للأطباء فرص الاجتماع في القصور للمباحثة في أمور الطب. ولعل الملك أو الأمير نفسه كان يحضر بعض تلك الاجتماعات. على أن ما كان يدور في تلك اللقاءات لم يكن دروساً بالمعنى التقليدي المعروف من نوع ما كان يقدم في المدرسة أو البيمارستان، بل كان مباحثات عامة في شكل مناظرات يتبارى أثناءها المناظرون في إظهار علمهم وتفوقهم فيه، على الطريقة التي كان يتناظر بها في القديم علماء اللغة والفقهاء والأدباء وغيرهم. وقد لمّح ابن أبي أصيبعة إلى ما كان يجري بين طبيبين شهيرين في النصف الأول من القرن السابع من مناظرات، وهما موفق الدين يعقوب ابن صقلاب (ت 652 هـ / 1228 م) (64) ومهذب الدين عبد الرحيم بن علي الدخوار حين قال عن ابن صقلاب: "وكان في أوقات كثيرة لما أقام بدمشق يجتمع هو الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي في الموضع الذي يجلس فيه الأطباء عند دار السلطان ويتباحثان في أشياء من الطب، فكان الشيخ مهذب الدين أوضح عبارة وأقوى براعة وأحسن بحثاً، وكان الحكيم يعقوب أكثر سكينة وأبين قولاً وأوسع نقلاً لأنه كان بمنزلة الترجمان المستحضر لما ذكره جالينوس في سائر كتبه من صناعة الطب" (47).
ويمكن أن نضيف إلى هذا الصنف صنفاً ثانياً من الدروس ـ وهي دروس تعليمية حقيقية ـ كانت تقدم لأبناء الحاشية ممن هم في خدمة السلطان أو الأمير وخاصة منهم أبناء الأطباء الذين يقتفون عادة آثار آبائهم في الطب. ويمكن تسمية هذا الصنف من الدروس دروساً خاصة. وقد كان أبو العباس أحمد ابن أبي أصيبعة ـ "صاحب العيون" ـ أيام كان والده في خدمة أمير دمشق عيسى بن الملك العادل الأيوبي ممن تلقى هذا الصنف من الدروس أخذاً عن الطبيب ابن صقلاب. وقد حدثنا هو نفسه عن ذلك إذ قال: "ومما شاهدته من أمره (أي ابن صقلاب) إني كنت أقرأ عليه في أوائل اشتغالي بصناعة الطب ونحن في المعسكر المعظمي ـ وكان أبي أيضاً في ذلك الوقت في خدمة الملك المعظم رحمه الله شيئاً من كلام ابقراط حفظاً واستشراحاً، فكنت أرى من حسن تأتيَّه في الشرح وشدة استقصائه للمعاني بأحسن عبارة وأوجزِها وأتمِّها معنى ما لا يجسر أحد على مثل ذلك ولا يقدر عليه. ثم يذكر خلاصة ما ذكره وحاصل ما قاله حتى لا يبقى في كلام بقراط موضع إلا وقد شرحه شرحاً لا مزيد عليه في الجودة. ثم أنه يورد نص ما قاله جالينوس في شرحه شرحاً لذلك الفصل على التوالي إلى آخر قوله.." (48).
د ـ المجالس الخاصة: وقد كانت كثيرة الانتشار، وقد كان الأطباء يقيمونها عادة في منازلهم الخاصة ويستقبلون فيها الطلبة والتلاميذ الراغبين في الأخذ عنهم. ومعظم أطباء الشام في القرنين السادس والسابع الهجريين كانت لهم مجالسهم الخاصة، وقد تخرج من تلك المجالس أطباء كثيرون. ومن أهم الأطباء الذين كانت لهم مجالس نذكر:
1 ـ مهذب الدين بن النقاش، فإنه "لما وصل إلى دمشق بقي بها يطبب، وكان أوحد زمانه في صناعة الطب، وله مجلس عام للمشتغلين عليه" (49)، ومن التلاميذ الذين أخذوا عنه مهذب الدين بن الحاجب (توفي في النصف الأول من القرن السابع) وموفق الدين بن المطران ومهذب الدين السامري وأبو زكرياء البياسي ورضي الدين الرحبي.
2 ـ موفق الدين عبد العزيز السلمي (ت 604 هـ / 1207 م) (50)، فقد كان له مجلس عام للمشتغلين عليه بالطب (51)، ومن أشهر تلاميذه رشيد الدين بن الصوري.
3 ـ رشيد الدين بن خليفة ابن أبي أصيبعة (ت 616 هـ / 1219 م) (52)، فإنه لما أقام بدمشق جعل له مجلساً عاماً لتدريس صناعة الطب، واشتغل عليه جماعة، وكلهم تميزوا في الطب (53).
4 ـ شمس الدين أبا عبد الله محمد بن عبدان اللبودي (ت 621 هـ / 1224 م) (54)، فقد كان له مجلس للاشتغال عليه بصناعة الطب وغيرها (55).
5 ـ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي الدخوار: وقد كان مجلسه في منزله فإنه بعد الفراغ من البيمارستان يعود إلى منزله ويستقبل الطلبة فيدخلون إليه ويأتي قوم بعد قوم من الأطباء والمشتغلين. وكان يقرئ كل واحد منهم درسه ويبحث معه ويفهمه إياه بقدر طاقته، ويبحث في ذلك مع المتميزين منهم إن كان الموضوع يحتاج إلى فضل بحث أو فيه إشكال يحتاج إلى تحرير. وكان لا يقرئ أحداً إلا وبيده نسخة من ذلك الكتاب الذي يقرؤه ذلك التلميذ، ينظر فيه ويقابل به. فإن كان في نسخة الذي يقرأ غلط أمره بإصلاحه ـ وكانت نسخ مهذب التي تقرأ عليه في غاية الصحة وكان أكثرها بخطه وكان أبدأ لا يفارقه إلى جانبه ـ مع ما يحتاج إليه من الكتب الطبية ـ من كتب اللغة كتاب الصحاح للجوهري والمجمل لابن فارس وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري، فكان إذا جاءت في الدرس كلمة لغة يحتاج إلى كشفها وتحقيقها نظرها من تلك الكتب (56). ومن أهم التلاميذ الذين أخذوا عنه نجم الدين اللبودي وموفق الدين أحمد ابن أبي أصيبعة وعز الدين إبراهيم بن السويدي.
6 ـ رضي الله الرحبي، ويمكن اعتباره أستاذ الأجيال وشيخ العلماء بحق، فهو قد أشغل بصناعة الطب خلقاً كثيراً، ونبغ منهم جماعة عدة وأقرؤوا أيضاً لغيرهم وصاروا من المشائخ المذكورين في صناعة الطب. ولو اعتبر أحد جمهور الأطباء بالشام لوجد إما أن يكون منهم من قرأ على الرحبي أو من قرأ على من قرأ عليه (57). ومن أشهر تلاميذه ابنه شرف الدين الرحبي ومهذب الدين الدخوار وكمال الدين الحمصي وفخر الدين الساعاتي.
وما يمكن استنتاجه ـ أخيراً ـ عن الطريقة المتبعة في هذه الدروس إنها كانت تقوم ـ كما يقول ابن أصيبعة ـ "على الحفظ والاستشراح" (58) من قبل الطالب، والشرح المستوفى اعتماداً أما على أقوال السابقين أو على مذهب المدرس نفسه. أما محتوى الدراسة فيقوم على الكتب الطبية أساساً. ومن الأساتذة من يكون له اختصاص في كتب عالم بعينه، مثل ابن صقلاب الذي كان متخصصاً في جالينوس، وكان فخر الدين المارديني متخصصاً في ابن سينا (ت 428 هـ / 1037 م) (59)، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن البيطار كان متخصصاً في مجال الأدوية في ديوسقريد وجالينوس (60).
ـ في الصيدلة وعلم النبات:
لم تكن الصيدلة في القديم منفصلة عن الطب. وكان من المستحسن في الطبيب أن يكون طبيباً وصيدلانياً في نفس الوقت، يُعد أدويته بنفسه حسب معرفته وتجاربه الخاصة. وقد بين ذلك الطبيب الأندلسي أبو جعفر أحمد بن محمد الغافقي (ت 560 هـ 1165 م) في مقدمة كتابه "الأدوية المفردة" تبياناً حسناً بقوله: "فأما حلي الأدوية واختيارها ومعرفة الجيد منها من الرديء فهو أخص بغرض هذا الكتاب مما ذكرنا، وإن كان أكثر أطبائنا يرون أن ذلك فصل خارج عن صناعة الطب وأن الطبيب ليس عليه علم بشيء من ذلك بل تقليد في ذلك الشجَّارين والصيادلة، وأنا أٌول في جواب ذلك: أما قولهم إن ذلك من غير صناعة الطب فصدقوا وذلك لأن معرفة الأدوية واختيارها إنما هو من صناعة الصيدلة لا من صناعة الطب لكن أطباءنا هؤلاء كلهم صيادلة. فمن قال منهم إنه ليس عليه معرفة الأدوية فهو من منه جهل فاحش قبيح لأن أطباءنا هؤلاء كلهم هم يتولون بأنفسهم عمل الأدوية المركبة وجميع أعمال الصيدلة. وما أقبح بأحدهم لو عقلوا أن يطلب أدوية مفردة لتركيب دواء فيؤتى بأدوية لا يعلم هل هي التي أراد أم غيرها، فيركبها ويسقيها عليله ويقلد فيها الشجَّارين ولقَّاطي الحشائش وقوماً لا يقرأون الكتب ولا يعرفون من الأدوية إلا أقلها ولا لأكثرهم أمانة، والذي يعرفونه من الأدوية فهم في معرفة مقلِّدون لغيرهم بغير علم، هذا إلى ما يُشاهد من اختلافهم فيها وقلة اتفاقهم. وأنا أقول إن أطباءنا هؤلاء كلهم إنما هم صيادلة، ولا تكسُّب لهم ولا معاش إلا من الصيدلة وهم لا يعلمون ذلك. ومثلهم في ذلك كمثل رجل نجار ولم يكن له كسب إلا من النجارة وهو يجهل أنه نجار ويظن أن صناعته غير ذلك. ومن جهل نفسه هذا الجهل فليس ينبغي أن يكلَّم أصلاً. فالطبيب الذي يحكم بما يجب للمريض من غذاء ودواء وتدبير وغير ذلك ولا يتولى شيئاً من عمل ذلك بيده هو طبيب فقط وليس بصيدلاني.والذي يتولى عمل الأدوية وتركيبها هو صيدلاني.فمن قال من أطبائنا إن معرفة الأدوية المفردة ليس بواجب علي فإنما لا يجب عليه ذلك من حيث هو طبيب، فأما من حيث هو صيدلاني فذلك واجب عليه حتى لا شيء أوكد عليه منه، إذ كان لا شيء أضرُّ في الصناعة من أن يسقى دواء بدل دواء، ولا أجهل ممن يفعل ذلك من الأطباء إذا تولى ذلك بنفسه فأما إذا سلم الأمر لغيره فالخطأ عليه دون الطبيب. ومعرفة الأدوية واختيارها يتقدم صناعة الصيدلة، وهو كالأساس لها. فأما معرفة قواها وأفعالها فهو جزء من أجزاء صناعة الطب (61).
فالطب والصيدلة إذن صناعتان مختلفتان، إلا أنها متكاملتان، والطبيب الجيد الماهر هو الذي يكون في نفس الوقت صيدلانياً ماهراً، يجيد معرفة قوى الأدوية، وخصائصها المخصوصة بها وأفعالها ومنافعها ومضارها ومناسبها والمختار منها وأبدالها، ويجيد فن تركيبها، ولقد كان التأليف فيها في الغالب جزءاً من التأليف في الطب العام، ومعظم كتب الطب الكبيرة مثل "الحاوي" للرازي و"الكامل في الصناعة الطبية" للمجوسي و" التصريف لمن عجز عن التأليف" للزهراوي و"القانون" لابن سينا ـ تحتوي أقساماً خاصة بالأدوية المفردة أو الأدوية المركبة أو بهما معاً.
ولقد غلبت هذه النزعة إلى المزج بين صناعتي الطب والصيدلة في بلاد الشام أيضاً، في الفترة التي نتحدث عنها، فمعظم الأطباء كانوا صيادلة، إلا أن الجانب الطبي التطبيقي كان أغلب، فغلبت شهرة أهل الصناعة في هذه الفترة على أنهم أطباء لا صيادلة، والفصل بين "بيت الوصف" ـ العيادة ـ و"بيت التصرف" ـ الصيدلية ـ كان أبرز وخاصة في البيمارستانات التي كانت الصيدليات فيها قائمة مستقلة عن قاعات المرضى، أي قاعات العلاج، وكانت تحت إشراف صيادلة متخصصين.
والدليل الذي عندنا على كون أطباء ذلك العصر صيادلة أيضاً هي التآليف التي وضعها عدد منهم في الصيدلة، أي في الأدوية المفردة أو المركبة. ومن الأطباء الذين ألفوا في الصيدلة موفق الدين أبو نصر أسعد بن المطران (ت 587 هـ / 1191 م)، الذي ألف كتاب "الأدوية المفردة" (63)، وأبو الفضل بن عبد الكريم المهندس (ت 599 هـ / 1202 م) (64)، الذي ألف كتاب الأدوية المفردة على ترتيب حروف المعجم (65)، وكمال الدين أبو منصور بن علي الحمصي (ت 612 هـ / 1215 م) (66)، الذي ألف "الرسالة الكاملة في الأدوية المسهلة" (67) ، وأبو الحجاج يوسف بن يحيى السبتي الذي ألف "رسالة في ترتيب الأغذية اللطيفة والكثيفة في تناولها" (68)، وقد ألف مهذب الدين عبد الرحيم الدخوار مقالة يرد فيها على رسالة أبي الحجاج (...) في ترتيب الأغذية .. (69)، وصدقة بن ميخا بن صدقة السامري (ت حوالي 623 هـ / 1226 م) (70) الذي وضع "مقالة في أسامي الأدوية المفردة" (71)، وأبو الحسن بن غزال بن أبي سعيد الذي قسم كتابه "النهج الواضح في الطب" إلى خمسة أجزاء وجعل الجزء الثاني "الأدوية المفردة وقواها" والثالث "في الأدوية المركبة ومنافعها" (27)، وعز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن السويدي الذي ألف كتابين في الأدوية هما "التذكرة الهادية والذخيرة الكافية في الطب" (73)، وكتاب "السمات في أسماء النبات" (74)، وقد قلد في الكتاب الأول كتاب أستاذه ابن البيطار "المغني في الأدوية المفردة" فأخذ من مادته ورتبه مثله بحسب منافع الأدوية للأعضاء الآلمة في الجسم (75).
ونريد أن نختم الحديث عن هذا المظهر بالحديث عن طبيبين قد تميزا في التأليف في الأدوية المفردة وخرجا فيه عن المألوف فحق لهما أن يعتبرا من عظماء علماء النبات. أولهما رشيد الدين بن الصوري الذي كان "أوحداً (كذا) في معرفة الأدوية المفردة وماهياتها واختلاف أسمائها وصفاتها وتحقيق خواصها وتأثيراتها (76). وقد ألف فيها كتاباً جليلاً كان نتيجة تجربة وبحث ميداني يقوم به أثناء جولات تعشيبية بحثاً عن النباتات في مظانها للتحقق من صفاتها وماهياتها، والتعرف على أدوية جديدة لم يذكرها المتقدمون، ولذلك كان كتابه في الأدوية المفردة جامعاً قد "استقصى فيه ذكر الأدوية المفردة وذكر أيضاً أدوية اطلع على معرفتها ومنافعها لم يذكرها المتقدمون" (77). وقد سلك في التعرف على النبات طريقة قد صورها لنا ابن أبي أصيبعة بقوله: "وكان يستصحب مصوراً ومعه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها. فكان يتوجه رشيد الدين بن الصوري إلى المواضع التي بها النبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي اختص كل منها بشيء من النبات، فيشاهد النبات ويحققه ويريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها. ثم إنه سلك أيضاً في تصوير النبات مسلكاً مفيداً وذلك أنه كان يُري النبات للمصور في إبَّان نباته وطراوته فيصوره، ثم يريه إياه أيضاً وقت كماله وظهور بزره فيصوره تلو ذلك، ثم يريه إياه أيضاً في وقت ذواه ويبسه فيصوره، فيكون الدواء الواحد يشاهده الناظر إليه في الكتاب وهو على أنحاء ما يمكن أن يراه به في الأرض، فيكون تحقيقه له أتم ومعرفته له أبين" (78).
أما العالم الثاني فهو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن البيطار. وابن البيطار كما هو معلوم أندلسي، قد ارتحل إلى المشرق وعاش فيه حوالي الثلاثين سنة. وقد ترجم له ابن أبي أصيبعة ضمن علماء مصر (79)، وتابعه في ذلك ابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" (80) ولكلرك في "تاريخ الطب العربي" (81). إلا أننا نعتمد أن مصر ليست أحق به من بلاد الشام لأن مدة إقامته في المشرق كانت موزعة بين مصر وبلاد الشام فلم تختص به إحداهما دون الأخرى، بل إن وفاته كانت في بلاد الشام، بدمشق، وبدمشق أيضاً كان له تلاميذ كثيرون من أشهرهم موفق الدين أبو العباس ابن أبي أصيبعة وعز الدين أبو إسحاق ابن السويدي.
كان ابن البيطار شيخ الصيادلة وإمام النباتيين بدون منازع، تدل على ذلك تسميته في كتب التراجم بالنباتي والعشاب، وشهادة تلميذه ابن أبي أصيبعة بأنه "أوحد زمانه وعلامة وقته في معرفة النبات وتحقيقه واختياره ومواضع نباته ونعت أسمائه على اختلافها وتنوعها" (82). وقد أهلته هذه الدراية الفائقة ليكون ـ في مصر ـ رئيساً على سائر العشابين وأصحاب البسطات. والذي يهمنا في ه