q رثاء الممالك
q الأفكار :
جاءت أفكار النص في مجملها تخدم الموضوع الذي تناوله الشاعر ، يبدأ نصه بحكمة وبمبدأ ( لكل شيء إذا ما تم نقصان ) ، ( من سره زمن ساءته أزمان ) في إشارة إلى أن الموضوع المتحدث عنه يشير إلى التغيير من الحسن إلى السيئ ) وينتقل للحديث عن لب الموضوع : ما أصاب ويصيب بلاد الأندلس من مصائب عظيمة تصعب المواساة فيها ( دهى الجزيرة أمر لا عزاء له ) ، اهتزت لهولها جبال شبه الجزيرة العربية ، وبكت الشريعة الإسلامية آسفة على فقدان مواقع لها ( بكت الحنيفية البيضاء من أسف …… علـى ديار من الإسلام خالية ) وحلول الكفر بدل الإيمان فيها ، وبالغ شاعرنا فأبكى المحاريب والمنابر على الإسلام المفقود في الأندلس.
ثم وجه حديثه للجيوش الإسلامية المدججة بالسلاح والقادرة على إحداث التغيير وجلب النصر ( يا راكبين عتاق الخيل ضامرة ) ، ( حاملين سيوف الهند مرهفة ) والذين يعيشون بسبب هذه القوة حياة رغد ودعة ( راتعين وراء البحر في دعة ) ، ( لهم بأوطانهم عز وسلطان ) حتى أنهم ما عادوا يهتمون بأنباء المسلمين في البلدان الأخرى ، رغم أن المسافرين يتناقلون هذه الأنباء والأحداث ( سرى بحديث القوم ركبان ) ، ويتحدثون عن استغاثة الأندلسيين دون استجابة ( كم يستغيث بنو المستضعفين وهم أسرى وقتلى فما يهتز إنسان )
ويوج لومه إلى البلدان الإسلامية المتنافرة ( ماذا التقاطع في الإسلام بينكم ) ، رغم ما يدعو إليه الإسلام من إخاء . ويتساءل ألا توجد( نفوس أبيات لها همم ) تعيد الإسلام إلى الأندلس . ويتحدث عن حال الأندلسيين بعدما حل بهم ( يا من لذلة قوم بعد عزهم ) وعن حيرتهم بدون قائد أو مرشد لهم ( حيارى لا دليل لهم ) يهربون من الأسر والبيع كعبيد ( لو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان ) ويقدم مثالاً لذلك ( أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان ) وهي مواقف تذيب قلوب المسلمين حزناً وأسى ، فهل بقي مسلمون ومؤمنون ……….
q أسلوب وطريقة العرض :
كتب الشاعر نصه في القرن الهجري السابع ، تدفعه مشاعر الألم لما يحل بالإسلام والمسلمين في الأندلس ، لذا جاءت عاطفته مزيجاً من العاطفة الذاتية والدينية ، واستخدم ألفاظاً دالة على المعاناة والحزن ، ولأن غرض الشاعر استثارة همم الأمة الإسلامية لنصرة إخوانهم فقد استخدم مفردات سهلة مألوفة ، وإن احتوت على ألفاظ جديدة علينا ، فمرد ذلك المسافة الزمنية بين وقت كتابة القصيدة وتلقي السامع لها .
يبدأ الشاعر نصه برأي ومبدأ وحكمة ، فعبارته تحوى الثلاثة ، يقول ( لكل شيء إذا ما تم نقصان ) فبعد أن يصل الشيء في مراحل نموه إلى تمام النضج والكمال حتى يبدأ في التناقص ، قدرة وكمالاً وهذا ما فهمه المسلمون والصحابة من قوله تعالى على لسان رسوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فاستشعروا قرب انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى فكأننا في بداية حياتنا نصعد إلى أعلى منحنى النمو والكمال والتمام فمتى وصلنا القمة نبدأ بالانحدار ، أي يتناقص هذا الكمال هبوطاً إلى الانتهاء ، وينطبق هذا المبدأ على الإنسان ، كما ينطبق على الدول وهذا ما ذكره ابن خلدون في مقدمته ……… وقدم شبه الجملة( لكل شيء ) للتعميم ، واستخدم اسم الشرط ( إذا ) الذي يؤكد ما بعده ( النقصان بعد التمام ) ، و ( ما ) بعد ( إذا ) زائدة ، والتضاد بين ( تم ) و ( نقصان ) لتوضيح المعنى ولا يفيد – هنا – الشمول ، وأصل أسلوب الشرط : ( إذا ما تم كل شيء بدأ نقصه ) ، أو ما شابه ، وتأتي النتيجة ، أو التطبيق لهذا المبدأ ( فلا يغر بطيب العيش إنسان ) و ( لا ) ناهية ، و ( يغر ) فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه سكون مقدر للتعذر بسبب التقاء ساكنين : حرف الراء الأول والثاني المدغم ، والراء آخر الفعل المضارع ، والعرب استبدلت بالسكون الثاني في هذا الموقع أحد أمرين : ضم الراء الثانية ( فلا يغرُّ ) أو فتحها ( لا يغرَّ ) والفتح أخف في النطق وأدل على حدوث تغيير في الإعراب ناجم عن دخول لا الناهية ، وحتى لا يحدث التباس بلا النافية ، التي لا تعمل في الفعل المضارع ، وقدم ( طيب العيش ) للتحديد ، وقيل بل لضبط الوزن ، وربما للأمرين معاً . وجاءت ( إنسان ) نكرة للتعميم .
ويكمل ( هي الأمور – كما شاهدتها – دول ) و ( هي ) ضمير الشأن أو القصة أو الحكاية ……… مبتدأ مبني في محل رفع والجملة الاسمية ( الأمور دول ) في محل رفع الخبر ، وقيل : بل هي مبتدأ ، والأمور : بدل منها ودول خبر المبتدأ ، و ( أل ) في ( الأمور ) جنسية لا عهدية ، فلا تكسبها تعريفاً ، و ( شاهد ) الشيء رآه ، أو عايشه أو عاصره ، أو تأمله وحلله ، فاكتشف أنها لا تبقى على حال ، أو كما يقولون : ( بقاء الحال من المحال ) ……… ويصل من خلال خبرته إلى تعميم أو مبدأ ( من سره زمن ساءته أزمان ) ومع أن الأفعال المستخدمة ماضوية إلى أنها من خلال صوغها في مبدأ أو تعميم اكتسبت معنى الاستمرار ( الماضي والحاضر والمستقبل ) واستخدم ( زمن ) مع ( سره ) و ( أزمان ) مع ساءته ليشير إلى طول فترة الشقاء ، وقصر فترة السعادة .
ونقف مع الشاعر عند هذا التقديم الذي يرى فيه أن من الطبيعي أن يخلف الكمال نقصاناً وأن الحزن يفوق السرور في امتداده الزمني وفي الإحساس به ، وكأنه يقول : إن ما حدث في الأندلس يتفق مع طبيعة الأمور ، ومع المبادئ الكونية ، ونتساءل : إذا كانت هذه سنة الحياة ، فأين التناقض ، ولماذا نحزن نستاء من الأشياء العادية والمتوقعة . إن إدراك هذه المبادئ يخفف من إحساسنا بالمصيبة ، ويجعلنا أكثر تقبلاً لها ، ورضا بواقعنا الجديد لكننا نحزن عند وفاة عزيز علينا ، مع إدراكنا أن الموت حق ………… ومع هذا فنحن لسنا مع هذا التقديم – رغم موافقتنا على المبادئ المذكورة – لأنه يتنافى واستثارة الهمم لرفض ما حل بالأندلس ، والتصدي له بالقوة ، وهذا أحد أغراض الشاعر من نصه . فليس هذا الموقع المناسب للاستشهاد بالمبادئ المذكورة . وربما رأى البعض أن الحديث في البيتين السابقين موجه إلى الحكام والقادة والخلفاء المسلمين ، فحالكم هذا من قوة وعز ورفاهية حال غير دائم ، وسيأتيكم زمن تحتاجون فيه إلى مساعدة الآخرين ، وربما تستغيثون استغاثاتم ، فاتعظوا ، وانهضوا لنصرة إخوانكم ، فالبيتان بهذه الرؤية ، يحملان معاني الحث والاستنهاض . وينتقل بعد ذلك إلى عرض ما حل بالأندلس فيقول : ( دهى الجزيرة أمر لا عزاء له ) و ( دهى ) أصابها بداهية ، أي مصيبة عظيمة ، وقصد بالجزيرة الأندلس ، وجاءت ( أمر ) نكرة لتفيد التضخيم ، وهي نكرة غير محضة بسبب وصفها بـ ( لا عزاء له ) والعزاء : المواساة والتسرية للتخفيف عن المصاب ، و ( لا ) نافية للجنس ، أي نافية لأي عزاء ممكن أو محتمل والعبارة تشير إلى عظم المصيبة التي حلت ، وهي داهية لا ينحصر أثرها في بلاد الأندلس ، بل يمتد إلى كل البقاع الإسلامية ، فنرى جبل أحد قد هوى وجبل ثهلان انهد . ويختلف معنى ( هوى ) عن معنى ( انهد ) ، فـ ( هوى ) تعني سقط من أعلى إلى أسفل ، وتحطم بسبب سقوطه ، و ( هوى ) أيضاً ثكل ، أما ( انهد ) فتعني : وهن وضعف ، كما تعني انكسر بشدة وبصوت ، والانكسار مادي ومعنوي ، وإذا كان ( أحد ) يرتبط بذاكرة الإسلام والمسلمين وشهد انتصار المسلمين وهزيمتهم ، فنحن لا نجد مناسبة لاختيار جبل ( ثهلان ) إلا إتمام القافية والميزان الشعري وقد يرى البعض أن جبل ( أحد ) ليس الاختيار الأنسب ، لأنه ارتبط في أذهان المسلمين بالهزيمة ، لا بالنصر . وقد يكون سبب الاختيار يرتبط بحجم الجبلين ( أحد وثهلان ) وكونهما من أضخم جبال شبه الجزيرة العربية ، أي يفترض أن يكونا أكثر تحملاً من غيرهما .