هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بنمالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر ابن وائل بن قاسط بنهنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان. شاعرجاهلي من الطبقة الولى، كان هجاءً غير فاحش
القول، تفيض الحكمة على لسانه،في أكثرشعره. ولد في بادية البحرين وتنقل في بقاع نجد. اتصل بالملك عمرو بن هند فجعله فيندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعُمان يأمره بقتله، لأبياتبلغ الملك أن طرفه هجاه بها، فقتله المكعبر بها.
كان، كما قال الزوزني، في حسبكريم وعدد كثير، وكان شاعرا جريئا على الشعر، وكانت أخته عند عبد عمرو بن مرثد بنسعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس وكان عبد عمرو سيد أهل زمانه، وكان من أكرم الناس علىعمرو بن هند الملك، فشكت أخت طرفة شيئاً من أمر زوجها إلى طرفة فعاب عبد عمرو وهجاهوكان من هجائه أياه أن قال:
وَلا خَيرَ فيه غَيرَ أنَّ لَهُ غِنىً- وَأنَّ لَهُكَشحاً إذا قامَ أهضَمضا
تَظَلّ نساءُ الحَيِّ يَعكُفنَ حَولَهُ- يَقُلنَ عَسيبٌمن سَرارَةَ مَلهَما
يعكفن: أي يطفن. العسيب: أغصان النخلز سرارة الوادي: قرارتهوأنعمه أجوده نبتاً. الملهم: قرية باليمامة.
فبلغ ذلك عمرو بن هند الملك ومارواه فخرج يتصيد ومعه عبد عمرو فرمى حماراً فعقره فقال لعبد مرو: انزل فاذبحه،فعالجه فأعياه فضحك الملك وقال. لقد أبصرك طرفة حيث يقول، وأنشد: ولا خير فيه، وكانطرفة هجا قبل ذلك عمرو بن هند فقال فيه:
فَلًَيتَ لَنا مكانَ المَلكِ عمرٍو- رَغوثاً حَولَ قبَّتِنَا تَخُورُ
مِنَ الزَّمِرَاتِ أسبَل قَادِمَاهَا- وَضرَّتُهَا مُرَكَّنةً دَرُورُ
لَعَمرُكَ إنَّ قَابُوسَ بنَ هِندٍ- لَيَخلِدُمُلكَهُ نُوكُ كَثِيرُ
قَسَمتَ الدَّهرَ في زَمَنٍ رَخيٍّ- كَذَاكَ الحُكمُيَقصِدُ أو يَجُورُ
فلما قال عمرو بن هند لعبد عمرو ما قال طرفة قال: أبيتاللعن! ما قال فيك أشدّ مما قال فيّ، فأنشده الأبيات فقال عمرو بن هند: أو قد بلغمن أمره أن يقول فيّ مثل هذا الشعر? فأمر عمرو فكتب إلى رجل من عبد القيس بالبحرينوهو المعلّى ليقتله، فقال له بعض جلسائه. إنك إن قتلت طرفة هجاك المتلمّس، رجل مسنّمجرّب، وكان حليف طرفة وكان من بني ضبيعة. فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمّس فأتياهفكتب لهما إلى عامله بالبحرين ليقتلهما وأعطاهما هدية من عنده وحملهما وقال: قدكتبت لكما بحباء، فأقبلا حتى نزلا الحيرة، فقال المتلمّس لطرفة: تعلمن والله إنارتياح عمرو لي ولك لأمر عندي مريب وإن انطلاقي بصحيفة لا أدري ما فيها? فقال طرفة: إنك لتسيء الظنّ، وما نخاف من صحيفة إن كان فيها الذي وعدنا وإلا رجعنا فلم نتركمنه شيئاً? فأبى أن يجيبه إلى النظر فيها، ففكّ المتلمس ختمها ثم جاء إلى غلام منأهل الحيرة فقال له: أتقرأ يا غلام? فقال: نعم، فأعطاه الصحيفة فقرأها فقال الغلام: أنت المتلمس? قال. نعم، قال: النجاء فقد أمر بقتلك فأخذ الصحيفة فقذفها في البحيرة،ثم أنشأ يقول:
وألقَيتُهَا بالثَّنِي مِن جَنبِ كافرٍ- كَذلِكَ ألقي كُلَّ رَأيمُضَلَّلِ
رَضيتُ لهَا بالمَاءِ لمّا رَأيتُهَا- يَجُولُ بهَا التيَّارُ في كلِّجَدوَلِ
فقال المتلمّس لطرفة: تعلمن والله أن الذي في كتابك مثل الذي في كتابي،فقال طرفة: لئن كان اجترأ عليك ما كان بالذي يجترىء عليّ، وأبى أن يطيعه؛ فسارالمتلمّس من فوره ذلك حتى أتى الشام فقال في ذلك:
مَن مُبلغُ الشُّعرَاءِ عَنأخوَيهمُ- نَبَأ فتَصدقهم بذاكَ الأنفُسُ
أودى الذي عَلِقَ الصَّحيفَة منهُما- ونَجَا حِذارَ حَيَاتِهِ المتلمِّسُ
ألقَى صَحِفَتَهُ وَنَجَّت كُورَهُ- وَجنَامُحَمَّرَةُ المَنَاسِمِ عِرمِسُ
عَيرَانَةٌ طَبَخَ الهَواجِرُ لَحمَها- فَكَأنَّ نُقبَتَها أدِيمٌ أملَسُ
وخرج طرفة حتى أتى صاحب البحرين بكتابه، فقالله صاحب البحرين: إنك في حسب كريم وبيني وبين أهلك إخاء قديم وقد أمرتُ بقتلك فاهربإذا خرجت من عندي فإن كتابك إن قرىء لم أجد بدّا من أن أقتلك، فأبى طرفة أن يفعله،فجعل شبان عبدالقيس يدعونه ويسقونه الخمر حتى قُتل.
وقد كان قال في ذلك قصيدتهالتي أولها لخولة أطلال؛ انقضى حديث طرفة برواية المفضّل؛ وذكر العتبيّ سبباً آخرفي قتله، وذلك أنه كان ينادم عمرو بن هند يوماً فأشرفت أخته فرأى طرفة ظلّها فيالجام الذي في يده فقال:
ألا يا ثاني الظبي- الذي يبرُقُ شنفاهُ
ولَولاالملكُ القاعدُ- قد ألثَمَني فاهُ
فحقد ذلك عليه، قال: ويقال إن اسمه عمرو وسميطرفة ببيت قاله، وأمه وردة؛ وكان من أحدث الشعراء سنّاً وأقلّهم عمرا، قتل وهو ابنعشرين سنة فيقال له ابن العشرين. ورأيت أنا مكتوبا في قصته في موضع آخر أنه لما قرأالعامل الصحيفة عرض عليه فقال: اختر قتلة أقتلك بها، فقال: اسقني خمراً فإذا ثملتفافصد أكحلي، ففعل حتى مات، فقبره بالبحرين، وكان له أخ يقال له معبد بن العبدفطالب بديته فأخذها من الحوافر.
قال مطاع صفدي و إيليا حاوي: كان مولد طَرَفة (543- 569م) في البحرين. نشأ يتيماً من أبيه، وكفله أعمامه، ولكنهم لم يعوّضوه عنفقدان الأب، بل حُكي أنهم اضطهدوه. فجعله ذلك متفرّداً منكفئاً على ذاته، متحللاًبفطرته من التقاليد الاجتماعية. واندفع الفتى منذ شبابه الباكر في حياة الفروسيةواللّهو والمتعة، حتى طرده قومه، وجال في البلاد. ووصل أطراف الجزيرة، وتقرّب منبلاط المناذرة، حتى وقعت له الحادثة المشهورة مع خاله المتلمَّس. فقد أرسله عمرو بنهند، هو وخاله، إلى عامله في البحرين، وحمَّل كلاًّ منهما رسالة مُغلقة، أوهمهماأنها تتضمّن طلباً للمكافأة. وتروي القصّة أن المتلمّس فضَّ الرسالة أثناء الطريق،وعرف مضمونها، ونجا من القتل، في حين أن طرفة أبي أن يفتح رسالته ومضى إلى حتفه. فقتله عامل البحرين بناء على أمر الملك، وبعد أن خيّره في رغبة أخيرة يحققها له. فطلب طرفة أن يشرب الخمر ثم يُفصد. وقضى وهو دون الثلاثين من عمره.
وطرفة هو منالشخصيات شبه الأسطورية، في قافلة الشعراء الملحميّين الكبار، تنبثق شخصيته، كأحدفرسان الدَّفق الحيوي الخلاَّق في شباب حضارة كبرى مليئة. ذلك أن طرفة ساق حياةالسالك المكتشف لروائع الوجود، المتمتع بألوان المعيشة العنيفة، المنطلق إلى مجاهلالإحساس البكر، في لقاء كل ما هو صاخب الوجود، رائع المثال، فوُصف بأنه فتى الجَّهلالأول، ونعت أنه منفاق، مهذار، طليق إلى درجة التَّحدّي لتقاليد الآخرين، مستهتربمقامات الرجال، ولو كانوا ملوكاً وأشقّاء ملوك، ولو كانوا سادة لقبائلهموعشائرهم.
ولد والشعر منهمر في دمه من أصلاب أمه وأبيه. وكان تمرّده منذ الطفولةوالشباب، قد جعله يتيم الحبّ والتقدير لدى أبيه. واحتقاره للمال والثروة، جعلهفقيراً طريداً من قومه. واعتزازه بكرامته فصَل بينه وبين حياة القصر النّعماني،ومهَّد لقتله غدراً، في تلك القصة الشهيرة المعروفة. بكورة في اليُتْم، بكورة فيالتمرَّد، فجَّرا فيه فروسية الشعر وهو دون العشرين. وتصاعدت هذه الفروسية إلى أفقمعاناة شمولية تلقاء الوجود قلّ مثيلها لدى أمثاله، وفي تلك الحقبة البعيدة منالتَّاريخ العربي.
لقد استطاع طرفة أن يقيم مذهباً وجودياً، بكل معنى الكلمة منخلال تعبيره عن حياته، ومن معايشة نزواته وأفكاره، بصورة صاخبة متأجّجة بالنّزوعإلى الحرية، وتحقيق الشخصية الذاتية بكل انفعالاتها الأصيلة، وتحدياتها لحتمياتالعالم الخارجي.
وقد اهتم المستشرقون الغربيون بشعراء المعلقات وأولوا اهتماماًخاصاً بالتعرف على حياتهم، فقد قالت ليدي آن بلنت وقال فلفريد شافن بلنت عن طرفة فيكتاب لهما عن المعلقات السبع صدر في بداية القرن العشرين: يحتل طرفة عند العلماءمنزلة تلي امرؤ القيس كشاعر جاهلي، ليس لشعره الذي وصلنا، بل للقصائد التي فقدت. يضعه "المفضل" بين أساتذة المعلقات السبع التي يدعوها العرب " الصموت " خيوط العقد. كما يعتقد أن هذه المعلقة أكثر انتظاماً في بنيتها من كل المعلقات الأخرى، نظرةنقدية لها وزنها في كل المدارس. أما بالنسبة للقارىء الإنجليزي، فإن هذا التفوق أقلوضوحاً. من المؤكد أن مطلع معلقة طرفة انتحال من معلمه العظيم امرؤ القيس ولا يبررأي جمال فكري خاص أو أسلوب بياني، الحكم على ما تبقى من القصيدة. كان وضعها في شكلإنجليزي مقروء، مهمة صعبة.
كان طرفة، الذي اسمه الحقيقي عامر بن العبد، شاباًعاصر امرؤ القيس وأقل الشعراء العرب قاطبة عمراً. يقال إنه قتل في سن السادسةوالعشرين. كان من قبيلة ظبية من العائلة الحاكمة، شاباً بدوياً طائشاً، كما الحالالآن في الجزيرة، خصب الخيال، متهوراً ضالاً، متورطاً في شجار دائم مع الآخرين،سليط اللسان عنيف الطبع. يروى أن كان يملك قطيعاً من الإبل مع أخيه معبد, وكانايرعيانه بالتناوب. لكن طرفة كان مهملاً ومغرماً بنظم الشعر فلم يقم بمهمته مما أدىإلى شجار يشار إليه في المعلقة. حين لامه معبد قائلاً هل يستطيع شعره إرجاع الإبلإن ضاعت، أجاب طرفة بعناد بنعم ورفض الإصغاء. وكما توقع معبد ضاعت الجمال يوماً فيعملية سطو، فذهب طرفة ليثبت صحة ادعائه إلى أصدقائه وأقاربه طالباً المساعدةلاسترجاع الإبل، وكان منهم ابن عمه مالك، الذي وبخه لكسله وحماقته، توبيخ، يقال إنهسبب نظم المعلقة. ويروى أيضاً إن أحداً لم يساعده ولم تستعاد الإبل، لكن طرفةاستطاع تنفيذ ما وعد به، إذ أن شيخ قبيلة وهبه مئة جمل عوض الضائعة إثر مدح طرفة لهفي قصيدة.
نهايته جاءت مأساوية. عند ذهابه إلى بلاط عمرو بن هند، ملك الحيرة،كان يجلس مع الأمير عندما مرت أخت الأمير، رأى طرفة ، بالرغم من عدم نظره إليها،عكس وجهها في قدح فضي كان يمسك به، فقال:
ألا يا ثاني الظبي- الذي يبرقشنفاه
ولولا الملك القاعد- قد ألثمني فاه
عندما نما هذا إلى مسامع عمرو لميسره ذلك، ويقال إن طرفة، الذي لم تعد له حظوة عند الملك، هجاه وأتم بذلك إساءته. كتم عمرو مع ذلك غيظه وأرسل في طلب طرفة وشاعر آخر، خال طرفة المتلمس، الذي كان قدأساء إليه أيضاً، وأغدق عليهم العطايا وطلب منهم الذهاب بحجة إلى البحرين التي كانتآنذاك تحت حكمه. أعطى كل منهما رسالة لواليه هناك، كما لو كانت رسالة توصية. ذهبطرفة دون أي شك، لكن المتلمس، كونه رجل كبير السن وأكثر دراية بأساليب الأمير لميكن راضياً، وقبل مغادرة الحيرة رأى فتح الرسائل لمعرفة ما فيهما. وجدا صبياً فيأطراف الحيرة، مسيحي من العبادي، يعرف القراءة. فتح المتلمس رسالته طلب من الصبيقراءة ما فيها. أخبره الصبي أن الملك طلب من واليه قتل حامل الرسالة. ألقى المتلمسالرسالة في نهر الفرات وهرب. غير أن طرفة، من شدة ثقته بنفسه وظنه أن ابن هند لايجرؤ على معاملته بالعنف لأنه من عشيرة قوية، ذهب إلى البحرين وقدم الرسالة للوالي. ولما كان الوالي، ربيعة بن الحارث، من أقرباء طرفة، فلقد حاول إنقاذه وتوسل إليهالهرب ليلاً قبل أن يعلم أحد بمجيئه. لكن طرفة رفض، ظنناً منه أن الوالي يريد خداعهلنيل الغنيمة بنفسه. وقال " والله، لن أفعل هذا، وأعطي عمرو ذريعة لقتلي إن هربت. في الصباح قبض عليه وسجن. اعتذر ربيعة من ابن هند قائلاً إنه لا يستطيع قتل قريبه. أرسل عمرو بن هند رجلاً من بني تغلب ليحل مكان ربيعة في البحرين وقتل ربيعة وطرفة. يقول بعض الناس إن من قتل طرفة كان من قبيلة الحوافر، التي دفعت دية دمه إلى والدهلاحقاً. تختلف الروايات في ذلك. حسب بعض الروايات، أكثرها ثقة، قتل بالسيف، آخرونيقولون دفن حياً، بينما يقول آخرون سمح له بشرب الخمر حتى فقد وعيه وقطع شريان فييده حتى توفي. رثته أخته الخرنق بأبيات حزينة.
وقال عنه دبليو إى كلوستون فيكتاب من تحريره وتقديمه عن الشعر العربي: كان طرفة بن العبد من قبيلة مزينة، أحدفخوذ قبيلة بني بكر، لذا سمي المزاني. أثبت نبوغه الشعري في سن السابعة حين كانمسافراً مع عمه والقافلة تستريح في الليل على ضفاف جدول صاف، وضع طرفة شركاً لصيدالقبرة، لكنه لم يفلح. عندما عزمت القافلة على الرحيل ثانية عبر الصبي عن المناسبةبقصيدة.
يعود سبب نظم المعلقة إلى ضياع إبله وإبل أخيه. قال سي. دو بيرسيفال إنعمرو بن المرتضى، شيخ مدحه طرفة في معلقته قد أرسل إلى طرفة قائلاً إن الله وحده منيمنح الأبناء، لكن في الأمور الأخرى سيعامله كواحد من أبنائه. ثم أرسل الشيخ في طلبأبنائه السبعة وأحفاده الثلاثة وأمر كلاً منهم بتقديم عشرة جمال إلى الشاعر، وبذلكعوض خسارته التي لامه أخوه عليها.
أهم حدث في حياة طرفة القصيرة كان موتهالمأساوي. أرسل عمرو ملك الحيرة طرفة والمتلمس، شاعر مشهور أيضاً، ليرافقا أخاهالأصغر قابوس، الذي كان يحضره لخلافته. يبدو أن قابوس كان مدمناً على الشرابوكثيراً ما يكون ثملاً. هجاه الشاعران وهجيا الملك أيضاً. غضب عمرو بسبب هذهالسخرية فأعطى كل واحد منهما رسالة إلى حاكم البحرين أمره فيها بقتل حاملها. شكالمتلمس في نوايا الملك ففتح الرسالة وعرضها على صديق قرأها له. عندما علم بما جاءفيها مزقها ونصح طرفة بالعودة معه. لكن طرفة اعتقد أن قارىء الرسالة قد خدع صديقهفرفض الاستماع إلى النصيحة وأكمل رحلته المميتة. عند تسليم الرسالة قام حاكمالبحرين بتنفيذ ما جاء فيها. قطع عمرو يدي ورجلي طرفه ودفنه حياً. كان طرفة فيالسادسة والعشرين عندما قضى.
قال عبد القادر فيدوم في دراسة له عن شعر طرفة: يحتل طرفة عند العلماء منزلة تلي امرؤ القيس كشاعر جاهلي، ليس لشعره الذي وصلنا، بلللقصائد التي فقدت. يضعه "المفضل" بين أساتذة المعلقات السبع التي يدعوها العرب "الصموت" خيوط العقد. كما يعتقد أن هذه المعلقة أكثر انتظاماً في بنيتها من كلالمعلقات الأخرى، نظرة نقدية لها وزنها في كل المدارس. أما بالنسبة للقارىءالإنجليزي، فإن هذا التفوق أقل وضوحاً. من المؤكد أن مطلع معلقة طرفة انتحال منمعلمه العظيم امرؤ القيس ولا يبرر أي جمال فكري خاص أو أسلوب بياني، الحكم على ماتبقى من القصيدة. كان وضعها في شكل إنجليزي مقروء، مهمة صعبة.
كان طرفة، الذياسمه الحقيقي عامر بن العبد، شاباً عاصر امرؤ القيس وأقل الشعراء العرب قاطبةعمراً. يقال إنه قتل في سن السادسة والعشرين. كان من قبيلة ظبية من العائلةالحاكمة، شاباً بدوياً طائشاً، كما الحال الآن في الجزيرة، خصب الخيال، متهوراًضالاً، متورطاً في شجار دائم مع الآخرين، سليط اللسان عنيف الطبع. يروى أن كان يملكقطيعاً من الإبل مع أخيه معبد, وكانا يرعيانه بالتناوب. لكن طرفة كان مهملاًومغرماً بنظم الشعر فلم يقم بمهمته مما أدى إلى شجار يشار إليه في المعلقة. حينلامه معبد قائلاً هل يستطيع شعره إرجاع الإبل إن ضاعت، أجاب طرفة بعناد بنعم ورفضالإصغاء. وكما توقع معبد ضاعت الجمال يوماً في عملية سطو، فذهب طرفة ليثبت صحةادعائه إلى أصدقائه وأقاربه طالباً المساعدة لاسترجاع الإبل، وكان منهم ابن عمهمالك، الذي وبخه لكسله وحماقته، توبيخ، يقال إنه سبب نظم المعلقة. ويروى أيضاً إنأحداً لم يساعده ولم تستعاد الإبل، لكن طرفة استطاع تنفيذ ما وعد به، إذ أن شيخقبيلة وهبه مئة جمل عوض الضائعة إثر مدح طرفة له في قصيدة.
نهايته جاءتمأساوية. عند ذهابه إلى بلاط عمرو بن هند، ملك الحيرة، كان يجلس مع الأمير عندمامرت أخت الأمير، رأى طرفة ، بالرغم من عدم نظره إليها، عكس وجهها في قدح فضي كانيمسك به، فقال:
ألا يا ثاني الظبي- الذي يبرق شنفاه
ولولا الملك القاعد- قدألثمني فاه
عندما نما هذا إلى مسامع عمرو لم يسره ذلك، ويقال إن طرفة، الذي لمتعد له حظوة عند الملك، هجاه وأتم بذلك إساءته. كتم عمرو مع ذلك غيظه وأرسل في طلبطرفة وشاعر آخر، خال طرفة المتلمس، الذي كان قد أساء إليه أيضاً، وأغدق عليهمالعطايا وطلب منهم الذهاب بحجة إلى البحرين التي كانت آنذاك تحت حكمه. أعطى كلمنهما رسالة لواليه هناك، كما لو كانت رسالة توصية. ذهب طرفة دون أي شك، لكنالمتلمس، كونه رجل كبير السن وأكثر دراية بأساليب الأمير لم يكن راضياً، وقبلمغادرة الحيرة رأى فتح الرسائل لمعرفة ما فيهما. وجدا صبياً في أطراف الحيرة، مسيحيمن العبادي، يعرف القراءة. فتح المتلمس رسالته طلب من الصبي قراءة ما فيها. أخبرهالصبي أن الملك طلب من واليه قتل حامل الرسالة. ألقى المتلمس الرسالة في نهر الفراتوهرب. غير أن طرفة، من شدة ثقته بنفسه وظنه أن ابن هند لا يجرؤ على معاملته بالعنفلأنه من عشيرة قوية، ذهب إلى البحرين وقدم الرسالة للوالي. ولما كان الوالي، ربيعةبن الحارث، من أقرباء طرفة، فلقد حاول إنقاذه وتوسل إليه الهرب ليلاً قبل أن يعلمأحد بمجيئه. لكن طرفة رفض، ظنناً منه أن الوالي يريد خداعه لنيل الغنيمة بنفسه. وقال " والله، لن أفعل هذا، وأعطي عمرو ذريعة لقتلي إن هربت. في الصباح قبض عليهوسجن. اعتذر ربيعة من ابن هند قائلاً إنه لا يستطيع قتل قريبه. أرسل عمرو بن هندرجلاً من بني تغلب ليحل مكان ربيعة في البحرين وقتل ربيعة وطرفة. يقول بعض الناس إنمن قتل طرفة كان من قبيلة الحوافر، التي دفعت دية دمه إلى والده لاحقاً. تختلفالروايات في ذلك. حسب بعض الروايات، أكثرها ثقة، قتل بالسيف، آخرون يقولون دفنحياً، بينما يقول آخرون سمح له بشرب الخمر حتى فقد وعيه وقطع شريان في يده حتىتوفي. رثته أخته الخرنق بالبيات الحزينة التالية:
في ما يخص تاريخ نظم المعلقة،قد يكون ذلك في العام 550 قبل الميلاد، ويقول البعض إنها كتبت في الأسابيع الأخيرةمن حياته عندما كان سجيناً في البحرين، غير أن فحواها لا يدعم هذا الرأي. من الواضحأنها قصيدة شاب يافع يعاني من مشاكله البدوية الصغيرة وشجاره مع أقربائه. ولعهانظمت في الصحراء قبل لقائه عمرو بن هند في الحيرة. الأبيات الوحيدة التي تلمحللبحرين هي التي يقارن هوادج نساء قبيلته بالسفن. لكن هذا بعيد جداً عن الحكمالنهائي. من المؤكد لو أنها نظمت في فترة متأخرة أن غضبه كان سينصب على عمرو، الذيظلمه أكثر من ابن عمه مالك، كونه شاباً طائشاً.
يقول المفضل صاحب " جمهرة أسفارالعرب " عن اسم طرفة الصحيح هو عمرو بن عبد، مدعياً إن اسم طرفة اسم منتحل. لكن هذاالرأي غير مقبول ولا معنى لاسم طرفة، إن كان اسماً منتحلاً.
وتختلف المصادرالأدبية في تحديد سنة ميلاد طرفة بن العبد، إذ ليس من السهل تحديد تاريخ ميلادهتحديداً قاطعاً- خاصة- في مثل هذه الفترة التي نقلت إلينا عن طريق الرواية وليس عنطريق الكتابة. ويكاد يجمع الرواة والإخباريون على أن طرفة عاش على وجه التقريب مابين 535- 568م، غير أن فؤاد افرام البستاني حاول أن يضبط تاريخ ميلاده فقال: "أمانحن فلا نرى بأساً في جعل مولد طرفة سنة 543م، إذ لا نعرف رواية تخالف ذلك، ولا نرىما ينافيه من الحوادث التاريخية".
ومن الراجح أن يكون طرفة قد ولد في هذاالتاريخ الذي حدده البستاني ب: 543م، باعتباره قال الشعر وهو صغير، ثم التحقببلاطملك الحيرة عمرو بن هند الذي قربه إليه في بداية الأمر، ثم ما لبث أن حقد عليهفأرسله إلى عامله بالبحرين ليقتله وذلك قبل انتهاء فترة حكم عمر بن هند سنة 568م،الذي حكم على وجه التقريب من سنة 554م إلى 568م، ومن ثم يكون طرفة قد توفي قبل هذاالتاريخ بقليل.
وجاء في كثير من المصادر الأدبية القديمة أن طرفة يعود نسبه إلىبكر بن وائل، غير أن أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري استأنف في التعريف بنسبه حتىوصل به إلى عدنان فقال معرفاً به: "هو طرفة بن العبد بن سفيان، بن سعد، بن مالك، بنضبيعة، بن قيس، بن ثعلبة، بن عكابة، بن صعب، بن علي، بن بدر، بن وائل، بن قاسط، بننهب، بن أقصى، بن دعمي بن جديلة، بن أسد، بن ربيعة، بن نزار، بن معد، بنعدنان".
وبذلك ينتسب طرفة إلى قبيلة لها مكانتها المرموقة في التاريخ العربيالقديم، ويظهر ذلك حين يفخر بأصله ونسبه، لأنه من بني وائل بن قاسط التي تفرعت منقبيلتي بكر وتغلب. فكان له الاعتزاز بانتمائه البكري من نسب الأب والتغلبي من نسبالأم، فجمع بين حيين عريقين لهما مكانتهما المسموعة. يقول في ذلك:
وتفرعنا منابني وائل- هامة العز وخرطوم الكرم
من بني بكر إذا ما نسبوا- وبني تغلب ضرّابيالبهم
وطرفة لقب غلب عليه، واسمه الحقيقي "عمرو" بن العبد، وقد سمي ب "طرفة" نسبة على "الطرفاء" وهو شجر الإثل، وذلك لبيت قاله:
لا تعجلا بالبكاء اليوممطرفا- ولا أميريكما بالدار إذ وقفا
وعاش طرفة يتيماً حيث فقد حنان الأبوة، إذمات أبوه وهو صغير السن، فأراد أعمامه أن يقسموا له ما خلفه من مال، فقال هذهالمقطوعة الشعرية في سن مبكرة، ناقماً على تصرفاتهم نحو أمه وإخوته الصغار:
ماتنظرون بحق وردة فيكم- صغر البنون ورهط وردة غيب
قد يبعث الأمر العظيم صغيره- حتى تظل له الدماء تصبب
والظلم فرق بين حيي وائل- بكر تساقيها المناياتغلب
قد يورد الظلم المبين آجنا- ملحاً يخالط بالدّعافِ ويقشب
وقراف من لايستفيق دعارة- يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
والاثم داء ليس يرجى برؤه- والبربرءٌ ليس فيه معطب
والصدق يألفه اللبيب المرتجى- والكذب يألفه الدنيُّالأخيب
ولقد بدا لي أنه سيغولني- ما غال عادا والقرون فاشعبوا
أدوا الحقوقتفر لكم أعراضكم- إن الكريم إذا يحرب يغضب
ولعل موت والده وهو بعد صغير السن،وظلم أعمامه لأمه وإخوته الصغار هو الذي وجه الشاعر توجيهاً خاصاً، صبغ أدبهبالتأمل والتفكير في هذه الحياة، فكان أن حفزه ذلك إلى قول الشعر مبكراً، فضلاً عنكونه قد ورث ذلك من بيئة تمرس صاحبها بالشعر، فقد كان والده شاعراً، وكان أبوهالعبد بن سفيان أخاً للمرقش الأصغر وابن أخ للمرقش الأكبر، وكلا المرقشين شاعرمعروف، وكانت أمه وردة أخت المتلمس جرير بن عبد المسيح وهو شاعر معروف كذلك فضلاًعن أخته الخرنق الشاعرة، وجده لأمه عمرو بن قميئة الشاعر المشهور.
ويبدو أنه عاشفي أسرة شاع الشعر وقوله بين أفرادها، مما يسر له قول الشعر وهو صغير، فكان لهذهالأسرة الأثر الكلي في تكوين ثقافته ونبوغه، كما جاء في رأي الباحثين من أن: ثقافةالشعر لطرفة تصله بالتراث الذي تطور في بطن قيس بن ثعلبة من بني بكر بن وائل، ولاتزيد البيئة العراقية إلى ثقافته تلك إلا لمسات خفيفة.
ويُروى أنه كان مع عمه فيسفر، وهو بعد صغير السن، فأرادا أن يستريحا من عناء السفر فنزلا على ماء، فذهب طرفةبفخ له فنصبه للقنابر، وهو على ذلك ماكثاً معظم يومه دون أن يصيد شيئاً، وبعد يأسهمن ذلك حمل فخه وعاد إلى عمه، فتحملا ورحلا من ذلك المكان، فرأى طرفة بعد ذلكالقنابر يلقطن ما نثر لهن من الحب فقال:
يا لك من قبرة بمعمر-
خلا لك الجوفبيضي واصفري-
ونقري ما شئت أن تنقري-
قد رحل الصياد عنك فابشري-
ورفعالفخ فماذا تحذري-
لا بد من صيدك يوماً فاصبري-
وهي من الأراجيز الأولىالتي قالها الشاعر، مما يدل على نضجه الفكري في هذا الأداء الفني الرفيع، وعلىالموهبة الناضجة.
ومما يذكر له أيضاً، وكان من باكورة نظمه، وهو ما تسجلهالدراسات النقدية الحديثة في أنه من البذور الأولى للنقد عند العرب، وذلك حين سمعالمتلمس ينشد هذا البيت:
وقد تناسى الهم عند احتضاره- بناج عليه الصيعريةمكدم
فصرخ طرفة منتقداً إياه، فقال جملته المشهورة "استنوق الجمل" أي خلط بينالناقة والجمل، إذ وصف الجمل بوصف الناقة، لأن الصيعرية توضع على عنق الناقة لا علىعنق الجمل، فذهبت هذه المقولة مثلاً في الخلط بين الشيئين.
وكان طرفة معتزاًبنفسه، تائهاً فخوراً، مما جعله يتجرأ على أهله وذويه بعد أن حاولوا منعه من إسرافهفي الشهوات وتبديده ما كان قد ورثه، فلم تجد قبيلته وأهله سبيلاً إلى ذلك سوى أنتفرده وتبتعد عنه، فاستشعر بالانعزال، كما جاء ذلك في قوله:
وما زال تشرابيالخمور ولذتي- وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها- وأفردتإفراد البعير المعبد
فأحس بالضيق نتيجة هذا الانعزال، فاضطر إلى أن يهجر قريتهوأهله رغم ما كان له من منزلة بين فقراء العشيرة الذين كانوا لا ينكرون إحسانه لهم،وأغنيائها الذين يلازمون صحبته ويحبونه.
رأيت بني غبراء لا ينكرونني- ولا أهلهذاك الطراف الممدد
ومع ذلك فلم يجد بداً من أن ينطلق عبر فلوات الصحراء، ناقماًعلى عشيرته التي لم توله أي اهتمام بسبب إمعانه في فرديته التي دفعته إلى المغالاةفي الذاتية "وهي فردية كانت القبائل تنكرها وترى فيها إخلالاً بالعقد الاجتماعيالقائم بينه وبين أبنائها والذي كان يفرض على شعرائها ذلك العقد الفني". عند ذلكترك قومه وظل هائماً في الصحراء كما في قوله:
ولا غرو إلا جارتي وسؤالها:- ألاهل لنا أهل سئلت كذلك
تعيرني طوف البلاد ورحلتي- ألا رب دار لي سوى حردارك
وليس امرؤ أفنى الشباب مجاوراً- سوى حيِّهِ إلا كآخر هالك
ولا أنيس لهفي الصحراء في ذلك سوى ناقته التي لازمته وأعانته على ترحاله، فكانت له رفيقةأمينة، وكان هو الآخر أميناً لها حيث صورها لنا بصورة حية مطيلاً في وصفها لما وجدفيها من الأنس والعون، فكان بفضلها أن طاف أرجاء الصحراء التي قذفته إلى بلاد اليمنوتجاوز ذلك إلى أن وصل إلى النجاشي في الحبشة، كما ذكر ذلك الأعلم الشنتمري فيمقدمة قصيدة لطرفة.
ثم ما لبث أن عاد إلى قومه بعد أن فشل في كل المحاولات بشأنتحقيق أحلامه في تحسين وضعه أو فيما كان يصبو إليه- ظناً منه- في إيجاد عالم مثاليغير عالمه القاسي مع عشيرته. فلم يجد بداً من العودة إلى قومه وعشيرته، وهم في ذلكغير مبالين به سواء رجع أم تمادى في هجره إياهم، فكان مما قاله بعد عودتهلهم.
ولقد كنت عيكم عاتباً- فعقبتم بذنوب غير مر
كانت فيكم كالمغطي رأسه- فانجلى اليوم قناعي وخمر
سادراً أحسب غيِّي رشدا- فتناهيت وقد صابت بقر
وساءطرفة أن يعود إلى عشيرته "بخفي حنين" لأنه يعلم جيداً أن لا شيء ينتظره سوى أنيحمله أخوه"معبد" رعي إبله.
وكانت الحيرة أيام عمرو بن هند موئلاً لكثير منالشعراء، لما كان يغدقه ملكها من عطايا وهبات جزيلة، مقابل أن يرفع الشعراء منشأنه. وقد أراد طرفة كغيره من الشعراء أن يجرب حظه مع عمر بن هند، لكن نخوة طرفةوأنفته لم تصبر على تصرفات الملك عمرو الذي كان شديداً، صارماً في حكمه، لا يبتسمولا يضحك، وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة، وتهابه هيبة شديدة، بل جعلوه شريراً "وكان له يوم بؤس، ويوم نعيم، فيوم يركب في صيده يقتل أول من يلتقي به، ويوم يقفالناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له وكان هذا دهره".
وفي رواية أخرى عن أحمدبن عبيد قال: "كان إذا ركب في يوم نعيمه لا يلقى أحداً إلا أعطاه ووهب له وقضى فيحاجاته، وإذا ركب في يوم بؤسه لم يلق أحداً إلا قتله".
مكث طرفة في بلاط الحيرةواستقبله عمرو بن هند بحفاوة وقربه إليه وكان من ندمائه أخوه قابوس، وبعد أن رأىطرفة من عمرو بن هند ما ساءه فاضت قريحته شعراً، فهجا عمرو بن هند وهجا أخاهقابوس.
وقد كثرت اختلافات الرواة بشأن قصة طرفة مع الملك وسبب هجائه له، كانتلخيصها فيما يلي: تذكر معظم المصادر القديمة التي أوردت خبر طرفة أن سبب هجائهعمرو بن هند هو أن عمراً هذا كان يتباطأ في استقبال الناس وخصوصاً الشعراء الذينجاءوا من كل مكان رجاء عطاياه، إذا به يتأخر في استقبالهم، فصاروا يتكالبون علىبابه ليجدوا وقتاً يدخلون فيه عليه، فاستاء طرفة من هذه المعاملة وقال شعراً يهجوهفيه. وربما كان من سبب غضب عمرو بن هند على طرفة أنه قال شعراً في أخيه قابوس الذيكان يحب الصيد وشرب الخمر، وكان أن قسم الدهر-هو أيضاً- يومين، يوماً يصيد فيهويوماً يشرب فيه، وكان يتأخر في استقبال الشعراء إلى العشي، فتذمّر طرفة من هذهالمعاملة فهجاه وهجا أخاه عمرو بن هند بقوله:
وليت لنا مكان الملك عمرو- رغوثاًحول قبتنا تخور
لعمرك إن قابوس بن هند- ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر فيزمن رخيّ- كذاك الحكم يقصد أو يجور
وفي رواية أخرى أن طرفة لما أضاع إبل أخيهمعبد ادعى جوار الملك عمرو، وكان قد تباطأ في رد الإبل إلى طرفة انتقاماً منه لأنهكان في مسيرة مع عمرو بن أمامة، فأضم عليه، أي حقد عليه- وكانت أول موجدة عليه،فبعث عمرو بن هند إلى إبل طرفة التي كانت في جوار قابوس فأخذها فقال طرفة:
لعمركما كانت حمولة معبد- على جدها حرباً لدينك من مضر
وكان لها جاران قابوس منهما- حذار ولم استرعها الشمس والقمر
وعمرو بن هند كان ممن أجارها- وبعض الجوارالمستغاث به غرر
فمن كان ذا جار يخاف جواره- فجاراي أوفى ذمة وهما أبر
أعمروبن هند ما ترى رأي صرمة- لها شنب ترعى به الماء والشجر
ويذكر ابن قتيبة روايةمفادها أن طرفة كان ينادم عمرو بنهند فأشرفت ذات يوم أخته، فرأى طرفة ظلها فيالجام الذي في يده فقال:
ألا يا بأبي الرِّيم- الذي يبرق شنفاه
ولولا الملكالعالي- لقبّلت له فاه
فحقد ذلك عليه.
وتجتمع هذه الأسباب كلية في أن عمرو بنهند كان ناقماً على طرفة، فحاول التخلص منه بعد أن تسربت له كل الأشعار التي هجاهفيها عن طريق عبد عمرو الذي يعد من سادة الناس آنذاك مما جعل عمرو بن هند يقربه إلىحاشيته، وكان زوجاً لأخت طرفة، وقد هجاه طرفة ذات يوم، وكان مما قاله فيه:
ياعجباً من عبد عمرو وبغيه- لقد رام ظلمي عبد عمرو فانعما
فشاع هذا النوع منالهجاء في عبد عمرو بين الناس، وبلغت مسامع عمرو بن هند واتفق أن خرج الملك ذات مرةإلى الصيد وخرج معه نفر من حاشيته وكان من بينهم عبد عمرو وصهر طرفة، وكان الملك قدأصاب طريدة فنزل وقال لأصحابه اجمعوا حطباً، وفيهم عبد عمرو فأوقد ناراً وشوى،فبينما الملك يأكل من شوائه وعبد عمرو يقدم له الطعام، إذ نظر إلى خصر قميصهمنخرقاً فأبصر كشحه، وكان من أحسن الناس كشحاً وجسماً، وكان طرفة قد قالفيه:
ولا خير فيه غير أنّ له غنى- وأن له كشحاً إذا قام أهضما
فتمثل الملكبهذا البيت سخرية منه، فغضب عبد عمرو وقال: قد قال طرفة للملك أقبح من هذا! فقالالملك: ما الذي قال? فندم عبد عمرو مما سبق منه وأبى أن يسمعه، فقال: أسمعنيه وطرفةآمن، فأسمعه القصيدة التي هجاه فيها فسكت عمرو بن هند على وقر في نفسه، وكره أنيعجل عليه لفطنة أحد جلسائه الذي نبهه وقال له: إنك إن قتلت طرفة وأبقيت المتلمسهجاك وانتقم منك لما له من مكانة، بحكم كونه مجرباً ومسناً، وكان المتلمس قد هجاعمرو بن هند ? أيضاً- بعدة قصائد فلبث الملك يتريث الفرصة السانحة للانتقام منهما،حتى اطمأنا إليه، فلما قدما إليه ذات مرة كتب لهما صحيفة إلى عامله بالبحرين، وكانيوم ذاك ربيعة بن الحارث العبدي، وقال لهما الملك انطلقا إليه، فإن في هذه الصحيفةأمر بجوائزكما أي أنه أوهمهما أن في كتابيهما أمر بمنح جائزة لكل منهما.
وأخذالشاعران- طرفة والمتلمس- صحيفتيهما ظناً منهما أن عمرو بن هند يأمر عاملهبإعطائهما الهدية، فحملا الصحيفتين وسارا معاً حتى وصلا النجف، فارتاب المتلمس بأمرهذا الكتاب وقال لطرفة: إني لأخاف عليك من نظرة الملك إليك بعد أن هجوته، وإنك غلامحديث السن، والملك من عرفت حقده وغدره وكلانا قد هجاه، فهلم ننظر فيما كتبه لنا- فأقبلا حتى نزلا الحيرة- حينذاك فك المتلمس ختم صحيفته وعرضها على غلام من أهلالحيرة فقرأها وإذا بها أمر بقتل المتلمس، وأشار إلى طرفة بك صحيفته- هو أيضاً- فأبى، ورمى المتلمس صحيفته في نهر بالبحيرة، كما جاء في قوله:
وألقيتها بالثنيمن جنب كافر- كذلك اقنو كل قط مضلل
ومضى طرفة إلى عامل البحرين فكانت هناكنهايته.
وفي رواية مشابهة لهذه تروى عن المتلمس أنه قال: بعد أن كتب الملك "خرجنا حتى إذا هبطنا بذي الركاب من النجف، إذا أنا بشيخ على يساري يتبرز ومعه كسرةيأكلها وهو يقصع القمل:، فقلت: تالله ما رأيت شيخاً أحمق وأضعف وأقل عقلاً منك،قال: وما تنكر? قلت: تتبرز وتأكل وتقصع القمل، قال: أدخل طيباً وأخرج خبيثاً وأقتلعدواً، وأحمق من الذي يحمل حتفه بيمينه لا يدري ما فيه. قال: فنبهني وكأنما كنتنائماً، فإذا غلام من أهل الحيرة فقلت: يا غلام تقرأ? قال: نعم قلت: اقرأه فإذافيه: من عمرو بن هند إلى المكعبر، إذا جاءك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليهوادفنه حياً، فألقيت الصحيفة في النهر. وقلت يا طرفة: معك مثلها، قال: كلا ما كانيفعل ذلك في عقر داري قال: فأتى المكعبر فقطع يديه ورجليه ودفنه حياً، ففي ذلك يقولالمتلمس:
من مبلغ الشعراء عن أخويهم- نبأ فتصدقهم بذاك الأنفس
أودى الذي علقالصحيفة منهما- ونجا حذار حبائه المتلمس
الق الصحيفة لا أبا لك إنه- يخشى عليكمن الحباء النقرس
ألقى صحيفته ونجت كوره- وجناء مجمرة الفراسن عرمس
أجد إذاضمرت تعزز لحمها- وإذا تشد بنسعها لا تنبس
ولقد تعددت الروايات بشأن مقتل طرفةمما يصعب تبيان الرأي الصحيح والاعتماد عليه، لكنها تكاد تكون متفقة على أن عمرو بنهند غضب على طرفة والمتلمس فأراد أن ينتقم منهما لهجائهما له.
بينما ذهب الشريفالمرتضى إلى أن قاتل طرفة هو النعمان بن المنذر امتثالاً بقول طرفة:
أبا منذركانت غروراً صحيفتي- ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبقبعضنا- حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وتذكر الأخبار أن النعمان بن المنذر قد تولىالحكم بعد مقتل طرفة بنحو سبع عشرة سنة، وقوله أبا منذر في هذين البيتين لا يكفيللدلالة على أن المعنى بقوله هو النعمان بن المنذر، فعمرو بن هند هو ابن المنذرأيضاً ويمكن أن يكنى بأبي المنذر ويذكر ابن قتيبة عن رواية أن الذي تولى قتله بيدههو معاوية بن مرّة الأيغلي. وذهب لويس شيخو في سرد القصة عن بعض الروايات، إلى أنعامل البحرين بعد أن قرأ صحيفة طرفة سأل عن المتلمس فأخبره بقراره، فعفا عنه لصدقهورعايته لطابع الملك حيث لم يكفه، وقيل أنه سجنه وبعث إلى عمرو بن هند، وقال ما كنتلأقتل طرفة وأعادي قبيلته، فإذا أردت قتله فابعث إليه من يقتله ففعل وخيّر في قتله،فاختار أن يسقى الخمر ويفصد أكحله، ففعل به ذلك حتى مات نزفاً ودفن بهجر، يقولالبحتري في ذلك:
ولقد سكنت إلى الصدود من النوى- والشّري أريٌ عند أكلالحنظل
وكذاك طرفة حين أوجس ضربة- في الرأس، هان عليه قطع الأكحل
وقيل فيقتله غير ذلك، قيل إن عامل البحرين أمر بدفنه حياً.
والواقع أن مثل هذهالروايات والأخبار- بحسب ما يظهر- إنما يكثر فيها الإسراف والمغالاة، كان القصدمنها وضع خبر طرفة ? شأن غيره من الشعراء المشهورين- في قصص منمق، وفي ذلك شك كبير،من حيث أنها محاولة للإيثار، تحبيباً لإسماع الناس إليها شأن كثير من الأخبارالقديمة التي كانت من نسج الخيال، القصد منها الاستمالة والترغيب في الإسماع ليسغير.
لكن على الأرجح أنه مات على يد عامل عمرو بن هند بالبحرين، وفي سن مبكرةفلقب نتيجة ذلك "الغلام القتيل" وقيل له أيضاً "ابن العشرين" إذ أصبح اسم طرفة لايذكر إلا إذا اقترن به، وذلك في كونه لم يتجاوز سن السادسة والعشرين امتثالاً بقولأخته الخرنق الشاعرة في رثائه:
عددنا له ستاً وعشرين حجة- فلما توفاها استوىسيداً ضخما
فجعنا به لما رجونا إيابه- على خير حال لا وليداً ولا قمحا
وجاءفي بعض الروايات يذكرها أبو زيد القرشي أن طرفة قال لعامل البحرين حين أراد أنيقتله انظرني شهراً فقال: ولات حين مناص، فقال: انظرني عشرة أيام، فقال: ما أمرتبذلك، فقال طرفة في اليوم الأول شعراً وأرسل به إلى أخويه، خالد، ومعبد، ابني "العبد" يقول فيه:
ألا أيها الغادي تحمّل رسالة- إلى خالد مني وإن كاننائيا
وصية من يهدي السلام تحية- ويخبر أهل الود أن لا تلاقيا
خرجنا وداعيالموت فينا يقودنا- وكان لنا النعمان بالسيف حاديا
ويروى أيضاً أنه قال قبل صلبهوكان في حسب من قومه يحرضهم للثأر منه:
فمن مبلغ أحياء بكر بن وائل- بأن ابن عبدراكب غير راجل
على ناقة لم يركب الفحل ظهرها- مشذّبة أطرافها بالمناجل
ويظهرأن رواة الأخبار وجدوا في طرفة شخصية جذابة لحداثة سنه، ولما وقع له مع عمر بن هندبشأن مقتله، فكان نتيجة ذلك أن تعددت الأخبار التي يصعب التفريق بين صحيحهاوالزائف.
أما بخصوص نظرة النقاد القدامى إليه فقد عده معظمهم من الشعراء الفحول،وربما أول ما يلفت النظر قبل التعرض إلى رأي القدماء في شعره هو ما قالته أختهالخرنق بعد أن رثته بقولها:
عددنا له ستاً وعشرين حجة- فلما توفاها استوى سيداًضخما
وقولها استوى سيداً ضخما يبرر ما له من مكانة أدبية في عصره وهو بعد صغيرالسن. وكان مما قاله ابن سلام الجمحي: فأما طرفة فأشعر الناس واحدة: (يعني معلقته) وتليها أخرى مثلها وهي:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر- ومن الحب جنون مستعر
ومنبعد له قصائد حسان جياد.
ويذكر الأنباري بإسناده إلى أبي عبيدة الذي قال: أجودالشعراء قصيدة واحدة، جيدة طويلة، ثلاثة نفر: عمر بن كلثوم والحارث بن حلزة، وطرفةبن العبد.
وجاء في رواية أخرى عن أبي عبيدة يذكرها ابن قتيبة أنه قال: مر لبيدبمجلس لنهد بالكوفة، وهو يتوكأ على عصا، فلما جاوز أمروا فتى منهم أن يلحقه فيسأله: من أشعر العرب? ففعل، فقال لبيد: الملك الضليل يعني امرؤ القيس فرجع فأخبرهم قالوا: ألا سألته: ثم من? فرجع فسأله: فقال: صاحب المحجن يعني نفسه.
ويذكر الجاحظ أنهليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد، وعبد يغوث، وذلك أننا إذا قسنا جودة أشعارهمافي حال الأمن والرفاهية.
وقال أبو العلاء المعري على لسان محاوره مخاطباً طرفةفي رسالة الغفران: ولو لم يكن لك أثر في العاجلة إلا قصيدتك التي على الدال لكنت قدأبقيت أثراً حسنا.
ويظهر من خلال هذه الآراء أنها تروي منزلة طرفة الشعرية التيأحرزها بين شعراء عصره، فاعتبر من متقدمي الفحول وأسبقهم إلى الإجادة في معظمإبداعه الفني وبخاصة في ابتكاره بعض المعاني. واتفق النقاد على أن طرفة لم يسبقه فيالجودة غير امرئ القيس، بل ربما كان طرفة أجود منه في وصف الناقة حيث أبدع فيوصفها.
وإذا كان ابن سلام قد وصفه في الطبقة الرابعة مع عبيد بن الأبرص، وعلقمةابن عبده وعدي بن زيد، فليس من شك في أن السبب يرجع إلى قلة ما وصله من شعره وهو ماصرح به ابن سلام في بداية حديثه عن الطبقة الرابعة بأنهم "أربعة رهط فحول، شعراء،موضعهم مع الأوائل وإنما أخل بهم قلة شعرهم بأيدي الرواة" ومن ثمة فالسبب لا يعودإلى جودة الشعر وإبداعه فحسب، وإنما إلى قلته، ونظرة القدماء عن الكم من أهمالمقاييس التي من شأنها تقدم هذاالشاعر أو ذاك عن سواه.
لمزيد من التفصيل أنظر: الزّوزَني، شرح المعلقات السبع الطوال، تحقيق د. عمر فاروق الطباع، بيروت: دارالأرقم بن أبي الأرقم، د. ت، ص97- 99. مطاع صفدي و إيليا حاوي، موسوعة الشعرالعربي: الشعر الجاهلي، إشراف د. خليل حاوي، تحقيق وتصحيح أحمد قدامة، بيروت: شركةخياط، 1974، مج2، ص385-387. أعلام الزركلي. د. عبد القادر فيدوم، القيم الفكريةوالجمالية في شعر طرفة بن العبد، المنامة: الأيام للنشر، ط1، 1998، ص11-21. وانظرأيضاً ما ترجمه صلاح صلاح في ما يلي :
تصفح المزيد:
http://www.sef.ps/vb/multka243527-11#ixzz1dtnKFcaq