تحليلسيميائي مقترح لنص
" يحيى بن يعمر .. شجاعة في الحق "
للصف العاشر الأساسي فيفلسطين / الجزء الثانيمقدمة :
النص الذي بين أيدينا مقالة تاريخية تصورمقارعة بين الحجَّاج ويحيى بن يعمر ، ليست بالسيف، ولكنها بالحجة على الملأ منالناس ، كان فيها يحيى صاحب الحجة المفحِمة التي جعلت الحجاج يبهت ، وغاية ما قامبه أن نفى يحيى إلى خراسان .
والمقالة التاريخية لون من ألوان المقالة الموضوعية، وتعتمد على جمع الروايات والأخبار والحقائق ، وتمحيصها وتنسيقها وتفسيرها وعرضها . وللكاتب أن يتجه في كتابتها اتجاهًا موضوعيًا صِرفًا تتوارى فيه شخصيته ، وله أنيضفي عليها غلالة إنسانية رقيقة ، فيزينها بالقصص ، ويربط بين حلقات الوقائع بخياله، حتى تخرج منها سلسلة متصلة مستمرة. ويُعنى كاتبها ـ كما في كل ألوان المقالةالموضوعية ـ بوضع تصميم وخطة لما يكتب . وخطة المقالة هي أسلوبها من حيث التقسيموالترتيب ؛ لتكون قضايا المقالة مترابطة ، بحيث تكون كل قضية نتيجة لما قبلها ،مقدمة لما بعدها ، حتى تنتهي جميعًا إلى الغاية المقصودة ، وهذه الخطة تقوم علىالمقدمة والعرض والخاتمة .
والنص للدكتور محمد رجب البيومي ، وهو باحث عربي منمصر ، سخيُّ العطاء ، ولد عام 1923 م ، وتلقَّى تعليمه في جامعة الأزهر ، وتدفقتبحوثه ومقالاته عبر الكثير من كبريات المجلات المصرية والعربية . حصل على جوائزكثيرة من مجمع اللغة العربية ، والمجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر ، وهو عضو مجمعالبحوث الإسلامية ، ورئيس تحرير مجلة الأزهر المصرية . له ديوان شعر مطبوع بعنوان : " صدى الأيام " ، وله مسرحيات شعرية ، وهو ما فتئ يحاور ويحاضر ، ويكتب عما يكابد .
1 ـ سيميائية العنوان :
لو نظرنا إلى عنوان النص لوجدناه يتحدث عن " يحيىبن يعمر " ، وهو أحد التابعين، عاش في زمن الدولة الأموية ، وبالذات أيام حكمالحجَّاج في الكوفة باعتباره أحد ولاة الدولة الأموية . ولكن النص لا يتناول جميعجوانب حياة يحيى بن يعمر ؛ ولذلك فقد حدد العنوان جانبًا واحدًا من حياته ، وهوجانب الشجاعة ، ولكنها ليست شجاعة في ميدان المعركة ، إنما هي شجاعة في ميدان قولالحق أمام سلطان جائر . إذن فقد جاء عنوان النص ليحدد بالضبط مضمون النص وفكرتهالعامة . وعند دراستنا للنص كاملاً لا نجده يخرج عن هذا النطاق .
ويمكن ملاحظةبعض الأمور على هذا العنوان ، منها :
1 ـ يتحدث العنوان عن الشجاعة في الحق ،وكأنه يطلب منا أن لا نخشى في الله لومة لائم ، وأن نقول كلمة الحق في وجه الطغاةالمتجبرين ـ وما أكثرهم في هذا الزمان ـ وأن نكشف أخطاءهم وألاعيبهم ، ولكن بالمنطقوالحجة الساطعة المفحِمة إ مما يجعل موقف هؤلاء الطغاة ضعيفًا أمام الشعوب .
2 ـإن يحيى بن يعمر شخصية حقيقية ، ولكن اختيار هذا الاسم بالذات ليكون عنوانًا وشخصيةمركزية في النص ـ بالرغم من أن تاريخنا مليء بقصص الشجاعة في الحق ـ له دلالة خاصة، فهو يحيى (يحيا) رغم شجاعته في الحق ، فلم يستطع الحجاج قتله ، وبقي حيًا ؛ وفيهذا حث لنا على الشجاعة في قول الحق ، دون خوف من الموت ؛ فإن الموت والحياة بيدالله وحده . ثم إن يحيى هو " ابن يعمر " ، فشجاعته كانت نتيجتها العمار لا الخراب ،فقد كان من نتائجها أن ألغى الحجاج قراره بمعاقبة من يقول إن الحسن والحسين من ذريةرسول الله صلى الله عليه وسلم . كما أن اسم " يحيى بن يعمر " من الأسماء التي تأتيعلو وزن الفعل المضارع الذي من دلالاته الاستمرار ، فالحياة والإعمار مستمران بفضلشجاعة هذا التابعي العظيم ، وربما لو أنه لم يقم بقول الحق في وجه الحجاج لكانالموت والقتل وخراب البيوت من نصيب الكثيرين ممن يثبت أنهم يحبون الحسن والحسين .
2 ـ سيميائية الصور :
وردت صورتان مصاحبتان للنص ، جاءتا في الصفحتينالثانية والثالثة من النص البالغ طوله أربع صفحات بالإضافة إلى صفحة المقدمة .
أما الصورة الأولى فهي ـ كما يبدو ـ للحجاج يقف مزهوًّا ، رافعًا رأسه فيكِبْرٍ وخُيلاء ، لا يمكن لمن يرى هذه الصورة إلا أن يحكم بأنها صورة لإنسانٍمتكبرٍ متغطرس ، فإذا عرفنا أنها صورة لحاكمٍ أو والٍ ، عرفنا أنه لا بد أن يكونظالمًا متسلطًا على شعبه .
وأما الصورة الثانية فهي نفس الصورة السابقة ، ولكنيقف إلى جانبها إنسان ضعيف الجسم ، رث الثياب ، ينظر إلى الحجاج في خوفٍ شديد ، فقدفتح فمه وعينيه ، ووضع يده على رأسه ، تتخيله حين تنظر إليه أنه يرتعد خوفًا ؛ولذلك فإننا بالتأكيد نحكم أنه ليس يحيى بن يعمر ، فمن كان شجاعًا في قول الحق ،فإن ملامح الشجاعة تبدو واضحةً عليه ، ولكن ربما هي صورة لواحد من عامة الشعب ؛ليدلل ذلك على مدى الرعب الذي يصيب من يقف أمام الحجاج ، وبالتالي فإنه يريد أنيصور لنا مدى بطش الحجاج بأفراد شعبه ورعيته ، وهو دليل على مدى شجاعة يحيى بن يعمر؛ لأنه لم يجهر بالحق في وجه أي حاكم ، وإنما في وجه حاكم ترتعد فرائص من يقف أمامه، ولكن هذا الحاكم الظالم لم يستطع أن يفعل شيئًا ذا بال في إنسانٍ كشف عيوبه وحججهالباطلة أمام الملأ ، فلا نامت أعين الجبناء .
3 ـ سيميائية البناء الداخليللشخصيات :
يدور النص حول شخصيتين محوريتين ، هما : يحيى بن يعمر ، والحجاج بنيوسف الثقفي ، وهناك الشخص الذي أراد أن يمدح الحجاج حين أفحمته حجة يحيى بن يعمر . أما شخصية الحسين بن علي فكانت مجرد مادة للمناظرة بين يحيى والحجاج ، فهو قداستشهد منذ مدة . كذلك هناك الشخصية الجماعية متمثلة في الذين أحبوا الحسين ولكنهملم يستطيعوا التصريح بهذا الحب خوفًا من بطش الحجاج.
أ ـ أما يحيى بن يعمر فكانيتصف بما يلي : كان من المتضلعين من علوم اللغة والشريعة ، ومن أفاضل التابعين ،وشارك مشاركة مثمرة في غرس بذور النحو مع أبي الأسود الدؤلي ، ثم إنه كان كاتبًا لايتلقى العلم مشافهةً فحسب ، بل يدون ويسجل ، كما أنه المخترع الأول لنقط الحروفبالاشتراك مع ناصر بن عاصم الليثي ، وله آراء كثيرة جدًا في الفقه والتفسير والحديث، كما اتصف بالشجاعة الأدبية في الحق ، والجرأة الخلقية في مواجهة الطغيان .
ومنمجمل هذه الصفات يمكن إبراز الملاحظات التالية :
1- يجب أن يؤثِّر العلم في سلوكصاحبه ؛ فكل هذه العلوم التي برع فيها يحيى بن يعمر كانت دافعًا له لأن يسعى إلىالإصلاح وتصحيح الخطأ ، ولو كان في ذلك تعريض نفسه للخطر .
2- إن إيراد هذهالصفات العلمية ليحيى بن يعمر ، ثم ذِكرأنه قارع الحجاج بالحجة والبرهان ، وتحداه، لهو إشارة إلى الواجب الملقى على عاتق العلماء والمثقفين في بيان الحق وعدمالسكوت على الباطل . وكما قال الإمام أحمد بن حنبل : " إذا سكت العالِم ، وجَهِلَالجاهل ، فمتى يتبين الحق ؟! " .
3- في إيراد هذه الصفات إشارة خفية إلى ذم منيمكن أن نسميهم " علماء السلطان " الذين لا يستخدمون علمهم إلا لتبرير أخطاء الحاكم، أو تزيين ما يفعله الحاكم في عيون الشعب . ولكنهم لو كانوا كيحيى بن يعمر لكانخيرًا لهم في الدنيا والآخرة .
ب ـ أما الحجاج بن يوسف الثقفي ، فقد كان من أكثرالشخصيات التاريخية إثارةً للجدل ؛ فقد اتصف بالعديد من الصفات الإيجابية ، إلىجانب العديد من الصفات السلبية :
ـ فمن صفاته الإيجابية أنه كان رجلَ دولةٍقويًا ، اتصف بالفصاحة والذكاء والحزم ، وأصلح النقد ، واعتنى بمشاريع الري ، وفتحبلدانًا كثيرة ، حتى أن خيوله وطئت بلاد السند والهند .
ـ ومن صفاته السلبية : القسوةُ ، وأخْذُ مناوئيه بالشبهات ، وإطلاقه العنان للسيف ، وقتله ابن حواري رسولالله عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن جبير وهو من خيرة التابعين ، بالإضافة إلى قتلخلقٍ كثير .
ولكن الكاتب قد ركَّز على مقالته التاريخية هذه على الصفات السلبية، وخاصة بطشه بمخالفيه ، وخاصةً من يقول إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلىالله عليه وسلم ؛ لأن هذه المخالفة هي محور شجاعة يحيى بن يعمر ،وصدعِهِ بالحق فيوجه الظالم .
ومن مجمل ما ذُكر من صفات الحجاح في النص ومقدمته ( بين يدي النص ) يمكن إبراز الملاحظات التالية :
1- إذا اتصف الحاكم أو القائد أو الزعيم بصفاتحسنة وأخرى سيئة ، فإن صفاته الحسنة ليست حجة للسكوت على أخطائه ، وخاصةً إذا كانفيها ظلم للرعية .
2- يجب أن يكون الحاكم أو الزعيم رحيمًا برعيته ، وقدوتنا فيذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه في القرآن الكريم : " فبما رحمةٍلنتَ لهم ، ولو كنتَ فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك " .
4 ـ سيميائية البناءالخارجي للشخصيات :
لم يرِدْ في النص أية ملامح خارجية لشخصيات النص ، اللهمإلا شكل الحجاج عند مناظرته ليحيى بن يعمر ، حيث بدا "كالح الوجه ، مقطب الجبين" دليلاً على اهتمامه بهذه المناظرة أيما اهتمام ، وعلى خشيته أن تكون نتيجة المناظرةفي غير صالحه ، وهو ما حدث بالفعل .
5 ـ سيميائية الزمان والمكان :
زمان النصهو عصر الدولة الأموية ، وعلى وجه الخصوص زمن الحجاج بن يوسف الثقفي عندما كانواليًا على الكوفة .. وهذا الزمن له دلالاته الخاصة ، فهو زمن القهر والظلم والقسوةوتكميم الأفواه . واختيار الكاتب لهذا الزمان بالذات ربما لأنه يشبه إلى حد كبيرالوقت الحاضر الذي نعيشه ، حيث لا يجرؤ أحد ـ إلا من رحم ربي ـ أن يقول للظالم : كفى ظلمًا ، واحكم في رعيتك بما يُرضي الله. فهو دعوة للعلماء والمفكرين الذينيعلمون الحق ولا يجرؤون على التصريح به ، أن يقولوا الحق ويبينوه للناس ، ولا يخشوافي الله لومة لائم ، فلا خوف من سلطان جائر ،فهذا يحيى بن يعمر قد واجه من هو أشدظلمةً وقسوة من هؤلاء الظلمة الجبابرة ، فنصره الله عليه ولم يتعرض لسوء .
أماالمكان فهو مدينة الكوفة ، وما أدراك ما مدينة الكوفة ؟! إنها مدينة العلم والأدبمن ناحية ، وهي بمثابة العاصمة الثانية للدولة الأموية ( حيث كانت دمشق عاصمةالدولة الأموية ) . فهذه المدينة فيها ما لذَّ وطاب من مباهج الدنيا وزينتهاوزخرفها وخيراتها التي يسعى الكثيرون إلى التمتع بها . إن هذه المدينة تجمع بينمتناقضين : طلب العلم والسعي لمرضاة الله ، وكذلك الاستغراق في الملذات والنعيمالدنيوي . وربما كان الكاتب ـ وهو المصري الجنسية ـ يشير إلى مدينة القاهرة ، التيفيها الأزهر الشريف والجامعات المصرية الشهيرة ، وكذلك فيها كل مباهج الحياةوزخارفها ، وفيها الأماكن التي يقصدها الناس من جميع بقاع العالم للتمتع والترفيه . إن اختيار الكاتب لهذا المكان بالذات فيه دعوة للعلماء والمفكرين والمصلحين أنيقتدوا بيحيى بن يعمر ، الذي لم يلتفت إلا لقول الحق وبيانه للناس ، ولم تستطعالدنيا بمباهجها أن تسيطر على قلبه .