المعلم المدير العام
عدد المساهمات : 1981 تاريخ التسجيل : 27/08/2007 العمر : 65
| موضوع: العاشر - تحليل سيميائي لدرس يحيى بن يعمر السبت 20 فبراير 2010, 20:19 | |
| تحليل سيميائي مقترح لنص " يحيى بن يعمر .. شجاعة في الحق " للصف العاشر الأساسي في فلسطين / الجزء الثاني مقدمة : النص الذي بين أيدينا مقالة تاريخية تصور مقارعة بين الحجَّاج ويحيى بن يعمر ، ليست بالسيف، ولكنها بالحجة على الملأ من الناس ، كان فيها يحيى صاحب الحجة المفحِمة التي جعلت الحجاج يبهت ، وغاية ما قام به أن نفى يحيى إلى خراسان . والمقالة التاريخية لون من ألوان المقالة الموضوعية ، وتعتمد على جمع الروايات والأخبار والحقائق ، وتمحيصها وتنسيقها وتفسيرها وعرضها . وللكاتب أن يتجه في كتابتها اتجاهًا موضوعيًا صِرفًا تتوارى فيه شخصيته ، وله أن يضفي عليها غلالة إنسانية رقيقة ، فيزينها بالقصص ، ويربط بين حلقات الوقائع بخياله ، حتى تخرج منها سلسلة متصلة مستمرة. ويُعنى كاتبها ـ كما في كل ألوان المقالة الموضوعية ـ بوضع تصميم وخطة لما يكتب . وخطة المقالة هي أسلوبها من حيث التقسيم والترتيب ؛ لتكون قضايا المقالة مترابطة ، بحيث تكون كل قضية نتيجة لما قبلها ، مقدمة لما بعدها ، حتى تنتهي جميعًا إلى الغاية المقصودة ، وهذه الخطة تقوم على المقدمة والعرض والخاتمة . والنص للدكتور محمد رجب البيومي ، وهو باحث عربي من مصر ، سخيُّ العطاء ، ولد عام 1923 م ، وتلقَّى تعليمه في جامعة الأزهر ، وتدفقت بحوثه ومقالاته عبر الكثير من كبريات المجلات المصرية والعربية . حصل على جوائز كثيرة من مجمع اللغة العربية ، والمجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر ، وهو عضو مجمع البحوث الإسلامية ، ورئيس تحرير مجلة الأزهر المصرية . له ديوان شعر مطبوع بعنوان : " صدى الأيام " ، وله مسرحيات شعرية ، وهو ما فتئ يحاور ويحاضر ، ويكتب عما يكابد . 1 ـ سيميائية العنوان : لو نظرنا إلى عنوان النص لوجدناه يتحدث عن " يحيى بن يعمر " ، وهو أحد التابعين، عاش في زمن الدولة الأموية ، وبالذات أيام حكم الحجَّاج في الكوفة باعتباره أحد ولاة الدولة الأموية . ولكن النص لا يتناول جميع جوانب حياة يحيى بن يعمر ؛ ولذلك فقد حدد العنوان جانبًا واحدًا من حياته ، وهو جانب الشجاعة ، ولكنها ليست شجاعة في ميدان المعركة ، إنما هي شجاعة في ميدان قول الحق أمام سلطان جائر . إذن فقد جاء عنوان النص ليحدد بالضبط مضمون النص وفكرته العامة . وعند دراستنا للنص كاملاً لا نجده يخرج عن هذا النطاق . ويمكن ملاحظة بعض الأمور على هذا العنوان ، منها : 1 ـ يتحدث العنوان عن الشجاعة في الحق ، وكأنه يطلب منا أن لا نخشى في الله لومة لائم ، وأن نقول كلمة الحق في وجه الطغاة المتجبرين ـ وما أكثرهم في هذا الزمان ـ وأن نكشف أخطاءهم وألاعيبهم ، ولكن بالمنطق والحجة الساطعة المفحِمة إ مما يجعل موقف هؤلاء الطغاة ضعيفًا أمام الشعوب . 2 ـ إن يحيى بن يعمر شخصية حقيقية ، ولكن اختيار هذا الاسم بالذات ليكون عنوانًا وشخصية مركزية في النص ـ بالرغم من أن تاريخنا مليء بقصص الشجاعة في الحق ـ له دلالة خاصة ، فهو يحيى (يحيا) رغم شجاعته في الحق ، فلم يستطع الحجاج قتله ، وبقي حيًا ؛ وفي هذا حث لنا على الشجاعة في قول الحق ، دون خوف من الموت ؛ فإن الموت والحياة بيد الله وحده . ثم إن يحيى هو " ابن يعمر " ، فشجاعته كانت نتيجتها العمار لا الخراب ، فقد كان من نتائجها أن ألغى الحجاج قراره بمعاقبة من يقول إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما أن اسم " يحيى بن يعمر " من الأسماء التي تأتي علو وزن الفعل المضارع الذي من دلالاته الاستمرار ، فالحياة والإعمار مستمران بفضل شجاعة هذا التابعي العظيم ، وربما لو أنه لم يقم بقول الحق في وجه الحجاج لكان الموت والقتل وخراب البيوت من نصيب الكثيرين ممن يثبت أنهم يحبون الحسن والحسين . 2 ـ سيميائية الصور : وردت صورتان مصاحبتان للنص ، جاءتا في الصفحتين الثانية والثالثة من النص البالغ طوله أربع صفحات بالإضافة إلى صفحة المقدمة . أما الصورة الأولى فهي ـ كما يبدو ـ للحجاج يقف مزهوًّا ، رافعًا رأسه في كِبْرٍ وخُيلاء ، لا يمكن لمن يرى هذه الصورة إلا أن يحكم بأنها صورة لإنسانٍ متكبرٍ متغطرس ، فإذا عرفنا أنها صورة لحاكمٍ أو والٍ ، عرفنا أنه لا بد أن يكون ظالمًا متسلطًا على شعبه . وأما الصورة الثانية فهي نفس الصورة السابقة ، ولكن يقف إلى جانبها إنسان ضعيف الجسم ، رث الثياب ، ينظر إلى الحجاج في خوفٍ شديد ، فقد فتح فمه وعينيه ، ووضع يده على رأسه ، تتخيله حين تنظر إليه أنه يرتعد خوفًا ؛ ولذلك فإننا بالتأكيد نحكم أنه ليس يحيى بن يعمر ، فمن كان شجاعًا في قول الحق ، فإن ملامح الشجاعة تبدو واضحةً عليه ، ولكن ربما هي صورة لواحد من عامة الشعب ؛ ليدلل ذلك على مدى الرعب الذي يصيب من يقف أمام الحجاج ، وبالتالي فإنه يريد أن يصور لنا مدى بطش الحجاج بأفراد شعبه ورعيته ، وهو دليل على مدى شجاعة يحيى بن يعمر ؛ لأنه لم يجهر بالحق في وجه أي حاكم ، وإنما في وجه حاكم ترتعد فرائص من يقف أمامه ، ولكن هذا الحاكم الظالم لم يستطع أن يفعل شيئًا ذا بال في إنسانٍ كشف عيوبه وحججه الباطلة أمام الملأ ، فلا نامت أعين الجبناء . 3 ـ سيميائية البناء الداخلي للشخصيات : يدور النص حول شخصيتين محوريتين ، هما : يحيى بن يعمر ، والحجاج بن يوسف الثقفي ، وهناك الشخص الذي أراد أن يمدح الحجاج حين أفحمته حجة يحيى بن يعمر . أما شخصية الحسين بن علي فكانت مجرد مادة للمناظرة بين يحيى والحجاج ، فهو قد استشهد منذ مدة . كذلك هناك الشخصية الجماعية متمثلة في الذين أحبوا الحسين ولكنهم لم يستطيعوا التصريح بهذا الحب خوفًا من بطش الحجاج. أ ـ أما يحيى بن يعمر فكان يتصف بما يلي : كان من المتضلعين من علوم اللغة والشريعة ، ومن أفاضل التابعين ، وشارك مشاركة مثمرة في غرس بذور النحو مع أبي الأسود الدؤلي ، ثم إنه كان كاتبًا لا يتلقى العلم مشافهةً فحسب ، بل يدون ويسجل ، كما أنه المخترع الأول لنقط الحروف بالاشتراك مع ناصر بن عاصم الليثي ، وله آراء كثيرة جدًا في الفقه والتفسير والحديث ، كما اتصف بالشجاعة الأدبية في الحق ، والجرأة الخلقية في مواجهة الطغيان . ومن مجمل هذه الصفات يمكن إبراز الملاحظات التالية : 1- يجب أن يؤثِّر العلم في سلوك صاحبه ؛ فكل هذه العلوم التي برع فيها يحيى بن يعمر كانت دافعًا له لأن يسعى إلى الإصلاح وتصحيح الخطأ ، ولو كان في ذلك تعريض نفسه للخطر . 2- إن إيراد هذه الصفات العلمية ليحيى بن يعمر ، ثم ذِكر أنه قارع الحجاج بالحجة والبرهان ، وتحداه ، لهو إشارة إلى الواجب الملقى على عاتق العلماء والمثقفين في بيان الحق وعدم السكوت على الباطل . وكما قال الإمام أحمد بن حنبل : " إذا سكت العالِم ، وجَهِلَ الجاهل ، فمتى يتبين الحق ؟! " . 3- في إيراد هذه الصفات إشارة خفية إلى ذم من يمكن أن نسميهم " علماء السلطان " الذين لا يستخدمون علمهم إلا لتبرير أخطاء الحاكم ، أو تزيين ما يفعله الحاكم في عيون الشعب . ولكنهم لو كانوا كيحيى بن يعمر لكان خيرًا لهم في الدنيا والآخرة . ب ـ أما الحجاج بن يوسف الثقفي ، فقد كان من أكثر الشخصيات التاريخية إثارةً للجدل ؛ فقد اتصف بالعديد من الصفات الإيجابية ، إلى جانب العديد من الصفات السلبية : ـ فمن صفاته الإيجابية أنه كان رجلَ دولةٍ قويًا ، اتصف بالفصاحة والذكاء والحزم ، وأصلح النقد ، واعتنى بمشاريع الري ، وفتح بلدانًا كثيرة ، حتى أن خيوله وطئت بلاد السند والهند . ـ ومن صفاته السلبية : القسوةُ ، وأخْذُ مناوئيه بالشبهات ، وإطلاقه العنان للسيف ، وقتله ابن حواري رسول الله عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن جبير وهو من خيرة التابعين ، بالإضافة إلى قتل خلقٍ كثير . ولكن الكاتب قد ركَّز على مقالته التاريخية هذه على الصفات السلبية ، وخاصة بطشه بمخالفيه ، وخاصةً من يقول إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذه المخالفة هي محور شجاعة يحيى بن يعمر ،وصدعِهِ بالحق في وجه الظالم . ومن مجمل ما ذُكر من صفات الحجاح في النص ومقدمته ( بين يدي النص ) يمكن إبراز الملاحظات التالية : 1- إذا اتصف الحاكم أو القائد أو الزعيم بصفات حسنة وأخرى سيئة ، فإن صفاته الحسنة ليست حجة للسكوت على أخطائه ، وخاصةً إذا كان فيها ظلم للرعية . 2- يجب أن يكون الحاكم أو الزعيم رحيمًا برعيته ، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه في القرآن الكريم : " فبما رحمةٍ لنتَ لهم ، ولو كنتَ فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك " . 4 ـ سيميائية البناء الخارجي للشخصيات : لم يرِدْ في النص أية ملامح خارجية لشخصيات النص ، اللهم إلا شكل الحجاج عند مناظرته ليحيى بن يعمر ، حيث بدا "كالح الوجه ، مقطب الجبين" دليلاً على اهتمامه بهذه المناظرة أيما اهتمام ، وعلى خشيته أن تكون نتيجة المناظرة في غير صالحه ، وهو ما حدث بالفعل . 5 ـ سيميائية الزمان والمكان : زمان النص هو عصر الدولة الأموية ، وعلى وجه الخصوص زمن الحجاج بن يوسف الثقفي عندما كان واليًا على الكوفة .. وهذا الزمن له دلالاته الخاصة ، فهو زمن القهر والظلم والقسوة وتكميم الأفواه . واختيار الكاتب لهذا الزمان بالذات ربما لأنه يشبه إلى حد كبير الوقت الحاضر الذي نعيشه ، حيث لا يجرؤ أحد ـ إلا من رحم ربي ـ أن يقول للظالم : كفى ظلمًا ، واحكم في رعيتك بما يُرضي الله. فهو دعوة للعلماء والمفكرين الذين يعلمون الحق ولا يجرؤون على التصريح به ، أن يقولوا الحق ويبينوه للناس ، ولا يخشوا في الله لومة لائم ، فلا خوف من سلطان جائر ،فهذا يحيى بن يعمر قد واجه من هو أشد ظلمةً وقسوة من هؤلاء الظلمة الجبابرة ، فنصره الله عليه ولم يتعرض لسوء . أما المكان فهو مدينة الكوفة ، وما أدراك ما مدينة الكوفة ؟! إنها مدينة العلم والأدب من ناحية ، وهي بمثابة العاصمة الثانية للدولة الأموية ( حيث كانت دمشق عاصمة الدولة الأموية ) . فهذه المدينة فيها ما لذَّ وطاب من مباهج الدنيا وزينتها وزخرفها وخيراتها التي يسعى الكثيرون إلى التمتع بها . إن هذه المدينة تجمع بين متناقضين : طلب العلم والسعي لمرضاة الله ، وكذلك الاستغراق في الملذات والنعيم الدنيوي . وربما كان الكاتب ـ وهو المصري الجنسية ـ يشير إلى مدينة القاهرة ، التي فيها الأزهر الشريف والجامعات المصرية الشهيرة ، وكذلك فيها كل مباهج الحياة وزخارفها ، وفيها الأماكن التي يقصدها الناس من جميع بقاع العالم للتمتع والترفيه . إن اختيار الكاتب لهذا المكان بالذات فيه دعوة للعلماء والمفكرين والمصلحين أن يقتدوا بيحيى بن يعمر ، الذي لم يلتفت إلا لقول الحق وبيانه للناس ، ولم تستطع الدنيا بمباهجها أن تسيطر على قلبه . 6 ـ سيميائية الأحداث : تبدأ الأحداث بانتشار حب أهل الكوفة للحسين بن علي ، وتضايُق الحجّاج من هذا الحب ، ومقاومته له بكل وسيلة . وهذا حال الكثير من الحكام الظلمة ، فهم يكرهون أن يلتفَّ الشعب حول أحد غيرهم ، حتى لو كان ميتًا ؛ لأنهم يعتبرون ذلك كرهًا للحاكم ، ومناهضة لهم بشكل غير مباشر . ماذا يفعل الحجّاج لكي يبدد حب أهل الكوفة للحسين بن علي ؟ لقد قام بعدة خطوات هي : 1- عرف سبب هذا الحب ، وهو قرابة الحسين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فحاول أن ينفي أن يكون الحسين من ذرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن انتساب الحسين لفاطمة لا يغير من الأمر شيئًا ، فالأب هو المعتبر في النسب دون الأم على قول من قال : بنونا بنو أبنائنا ، وبناتُنا بنوهنَّ أبناء الرجال الأباعدِ 2- استخدم أسلوب الخُطَب المطولة . وما أكثر ما يحاول الحكام الظلمة استخدام الخُطَب الرنانة للتغطية على جرائمهم ، وتقديم الكلام المعسول لشعوبهم دون عمل إيجابي نحوهم . وقد تحمل هذه الخُطَب التحذير المبطن للمخالفين ولمن تحدثه نفسه بالخروج عليه . 3- استخدم الشدة بحق من يَثْبُتَ أنه يخالف الحجّاج ، سجنًا وتشريدًا . وهذا ديدن كل الظلمة على مرِّ الزمان ، حيث تمتلئ السجون بالمخالفين ، وتُستَخدَم بحقهم كل ألوان التعذيب والقسوة . 4- بثَّ العيون والجواسيس وكاتبي التقارير ليأتوه بأخبار من يهمس بمخالفة الحجاج . وهذا الأمر متعارف عليه أيضًا في كل زمان ومكان يوجد فيه حكام ظلمة . إن هذه الخطوات الأربع التي اتخذها الحجّاج تكاد أن تكون هي نفسها التي يقوم بها الحكام الظلمة في الماضي والحاضر وفي كل وقت وحين . بعد ذلك وصلت للحجاج أنباء بأن يحيى بن يعمر سئل عن الحسين وانتمائه لمحمد صلى الله عليه وسلم فأجاب في المسجد الجامع : إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ، وإن الحجّاج يحكم ولا يفتي ، فإذا أفتى فعن غير عِلم واعتقاد . مما سبق يتضح ما يلي : 1- إن يحيى بن يعمر قد تحدَّى الحجاج صراحةً . 2- وأنه قد أعلن تحديه له على ملأ من الناس ، بل وفي المسجد الجامع ، حيث اعتبر الحجاج ذلك تحريضًا ضده . 3- إن يحيى بن يعمر قد طعن في علم الحجاج ، وقال بأنه ليس أهلاً للفتوى . 4- إن يحيى بن يعمر هو عالِمٌ جليل ، وهو مسموع الكلمة ، محترَم الرأي ، فإذا أفتى بما يعارض الحجاج فقد تمكَّن من قلوب الناس ، وذهبت دعوى الحجاج في الحسين أباديد . لقد أدرك الحجاج ـ وهو الداهية ـ أنه لا يستطيع أن يستعمل مع يحيى بن يعمر القسوة والشدة ، وإلا فإن ذلك سيؤلِّب الجماهير عليه ، فماذا يفعل ؟ 1- قرر أن يطلب من يحيى بن يعمر أن يأتي بنص واضح من القرآن الكريم يؤيد دعواه . 2- عقد مجلسًا حاشدًا من أعوانه ووجهاء الكوفة حتى يشهدوا عجز يحيى بن يعمر في إثبات صحة دعواه ـ كما قدَّر الحجَّاج ـ . 3- حرص على أن يحضر المجلس شيعة يحيى بن يعمر ومقدِّرو علمه وفضله ؛ لينكشف أمامهم في المعمعة ، فيضيع ما يُنسب إليه من علم وثبات . 4- أرسل من يُحضر يحيى ليتجرع كأس الهزيمة على انكسار . إن كل هذه الأمور تدل على عدة أمور من بينها : 1- إن الحجاج كان يحسِب ليحيى بن يعمر أكبر الحسابات . وهكذا فإن الحكام الظلمة يحسبون حسابًا للعلماء العاملين ، فلا يجب أن يخشى العلماء بطش الحكام . 2- إن الحجاج لم يجرؤ على استخدام الشدة بحق يحيى بن يعمر ، فليس أمامه إلا محاولة التغلب عليه وقهره بالحجة المفحمة ـ بحسب رأيه ـ . تبدأ المناظرة ؛ فيسأل الحجاج يحيى بن يعمر عن صلة الحسين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيرد يحيى في كبرياء : الحسين والحسن من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ غضِبَ الحجّاج . فيتنمَّر الحجاج متحفزًا ويصيح : ألَدَيكَ دليلٌ من كتاب الله ؟ فيرد يحيى في ثقة بالغة : معي الدليل من القرآن ، فيستغرب الحجاج ويتهكم ، ويؤكد أنه قرأ القرآن مئات المرات فما وجد فيه أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله . ولكن يحيى بن يعمر يقرأ على الحاضرين الآيات ( 83 ـ 85 ) من سورة الأنعام، وفيها إثبات أن عيسى بن مريم من ذرية إبراهيم ، وهنا يلتفت يحيى بن يعمر إلى الجمهور قائلاً : أيكون عيسى بن مريم من ذرية إبراهيم بنص القرآن ، ولا يكون الحسين من ذرية رسول الله ، وبينهما من القرابة الدانية أكثر مما بين عيسى وإبراهيم ؟مما سبق يمكن استنتاج ما يلي : 1- كان يحيى بن يعمر يردُّ على الحجاج في كبرياء ، وفي ثقة بالغة ، فلم يضعف أو يرتجف أمام الحجاج . وهذا درس للعلماء في أن لا يخشوا إلا الله ، مصداقًا لقوله تعالى : " الذين يبلِّغون رسالات الله ولا يخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله " . 2- إن يحيى بن يعمر كان على درجة من العلم والذكاء جعلته يستطيع استنباط الدليل على صحة رأيه من القرآن الكريم ، بالرغم من أن غيره ـ ومنهم الحجّاج ـ لم يصلوا إلى هذا الاستنباط . وهذا دليل على أن العلم ليس كلمة تقال ، بل العالِم هو من يستطيع استنباط ما لم يستطع غيره استنباطه ، وليس العلم ـ بالضرورة ـ مرتبط بالشهادات ؛ فهناك من يحمل شهادة ، وهناك من تحمله الشهادة . لقد جاء الدليل صاعقًا قاصمًا ، وقد اعتصم الحجَّاج بذكائه ليسعفه بردٍّ مضلِّل فما استطاع ، وبدت الفرحة والشماتة في عيون الجالسين ؛ فزادت من ضيق الحجّاج وانبهاره ، وفي هذا دليل على كره الناس للحجّاج ولكل ظالم مستبد . ثم رأى الحجاج أن يتراجع في موقفٍ ضائق يضغط عليه بآصاره ؛ فابتسم في تصنُّع وقال : اجلس يا يحيى ، فقد فاتني هذا الاستنباط . إن ذلك يشير إلى عجز الحجّاج وفشله في مسعاه لإحراج يحيى بن يعمر ، فهل يستسلم ؟ هل يصرف القوم وهو في حالة فشل ؟ كلا .. لأن كل ظالم مستبد يحرص على أن لا يظهر بمظهر العاجز أمام الجماهير . هنا لجأ الحجّاج إلى ما اعتقد أنه يجيده ، وهو الفصاحة وعدم اللحن في القرآن الكريم ، فسأل يحيى بن يعمر سؤال الواثق من نفسه : أتجدني ألحن في قولي يا بن يعمر ؟ وهنا يفحمه يحيى بن يعمر مرةً أخرى بأنه يلحن ، حتى في القرآن الكريم ، وذلك حين رفع المنصوب في كلمة "أَحَبَّ " الواردة في الآية 24 من سورة التوبة ؛ فتغير وجه الرجل وحدثته نفسه أن يهم بصاحبه ، ولكن انهياره النفسي أورثه ترددًا لا عهد له به . وهكذا فإن الحق حين يصدع به صاحبه فإنه يلجم كل ظالم مستبد . وهنا يبرز أحد المطبلين للسلطان ، فيحاول إنقاذ الموقف بتغيير مجرى الحديث ، فأخذ يسأل الحجّاج عن مدينة واسط التي شيدها باذلاًَ جهده الجاهد في التعمير والتثمير ، وكان الحجاج قد ارتاح إلى هذا الانتقال المنقِذ ، فأخذ يسهب فيما فعله وأنفقه على بناء هذه المدينة ، ثم رأى أن يصانع يحيى ؛ ليظهر أمام الناس بأن هزيمته لم تنل من نفسه ، فقال ليحيى : لم تذكر لنا رأيك في مدينة واسط يا يحيى ! فسكت الرجل ولم يردّ ، وتوجهت العيون إليه ، فزادت من حرج الحجّاج وتورطه ، فأعاد عليه السؤال مغيظًا ، فقال يحيى : أيها الأمير ، ماذا أقول عن واسط ، وقد شيَّدْتَها من غير مالك ، وسيسكنها أهلك ؟! إن هذا المشهد يشير إلى عدة أمور يجب أن لا تفوتنا ، ومنها : 1 ـ كل حاكم ظالم له مجموعة من المنتفعين الذين يزينون أعماله للناس وينقذونه في المواقف الحرجة ، فيجب كشف ألاعيبهم ؛ لأن الحاكم الظالم يعتمد عليهم اعتمادًا كبيرًا . 2 ـ إن الحاكم الظالم لا يستسلم بسهولة أما مناوئيه ، ولكن على العلماء والمصلحين أن لا ييأسوا من الاستمرار في قول كلمة الحق في سبيل الإصلاح حتى يحققوا أهدافهم . 3 ـ إن السكوت في بعض المواقف أبلغ من الكلام ، كأن يطلب منه الحاكم الظالم أن يبدي رأيه في أمرٍ ما ، فيرفض الكلام ، كما فعل يحيى بن يعمر . 4 ـ إن سكوت العالم في مثل هذه المواقف ليس ناتجًا عن ضعف فيه أو في حجته ، وإنما ليغيظ هذا الحاكم الظالم أو يحرجه أمام شعبه . نفَذَ صبر الحجّاج ، وتلهَّب الجمر في عينيه ، ثم صاح : ما حملك على هذا ؟ فقال يحيى في اعتداد : ما أخذ الله ـ تعالى ـ على العلماء في علمهم ألا يكتموا الناس حديثًا . فأطرق الحجّاج منخذلاً ، وساد صمتٌ حائر غمر المكان لحظات ، ورأى أن يقوم بعملٍ ينقذ خشيته ، فصاح بيحيى : لا تساكنِّي ببلدِ أنا فيه ، فاذهب منفيًا إلى خراسان . وعندما ذهب يحيى إلى خراسان وجد صيته الطائر يسبقه هناك ، ورأى الجميع يتحدثون بمجابهته للحجاج مكبِرين مقدِّرين ، ودنا خراساني ، فسأله في تعجُّب : ألم تخشَ سيف الحجّاج ؟! فردَّ في إيمان الواثق : لقد ملأتني خشية الله ، فلم تَدَعْ مكانًا لخشية إنسان . مما سبق يمكن استنتاج الأمور التالية : 1 ـ يجب على العلماء عدم كتمان علمهم خوفًا من بطش السلطان . 2 ـ إن نفي العلماء والمصلحين ، التي يعتقد الحاكم الظالم أنه يخدمه ويخدم مصالحه ، قد يكون فيه الخير الكثير للعالم والمصلح ودعوته وانتشارها . 3 ـ من خشي الله حق الخشية ، لا يخشَ أحدًا غيره ، وأحق الناس بهذا الأمر هم العلماء والمفكرون والمصلحون . 7 ـ سيميائية بعض العبارات الواردة في النص : سنناقش فيما يلي الدلالات والإشارات المحتملة لبعض العبارات الواردة في النص كنموذج ، ويمكن لمن أراد الاستزادة أن يبحث في سيميائية عبارات أخرى في ضوء الفهم العام والتفصيلي للنص : 1 ـ وقد شاء له القدر أن يُبتلَى بالحجّاج ، أو يُبتَلَى الحجّاج به : فيه إشارة على أن طريق الإصلاح ليست مفروشة بالورود والرياحين ، بل هي طريق صعبة وشاقة ، وفيها من الابتلاءات ما يمحِّص العلماء والمفكرين والمصلحين ؛ ليميز الخبيث من الطيب ، والصادق من الكاذب . 2 ـ فأجاب في المسجد الجامع : "إن الحسن والحسين من ذرية الرسول " : في ذلك إشارة إلى أن على العلماء والمصلحين أن ينشروا ما ينادون به ليصل إلى أكبر عدد ممكن من أفراد الشعب ، ولا يقتصروا على بعض الناس الذين لا يحتمل أن يبلغوا الحاكم الظالم ؛ لأن العالم أو المصلح يجب أن لا يخشى في قول الحق لومة لائم . 3 ـ ثم هو ـ أي يحيى ـ يناصر في اعتدال ، فلا يوازن بين الصحابة لينصر فريقًا على فريق : في ذلك إشارة إلى أن العالِم أو المصلح يجب أن يكون هدفه الإصلاح ونصرة الحق ابتغاء مرضاة الله ، وأن لا يكون هدفه نصرة فريق أو جماعة أو فئة . 4 ـ الحسين والحسن من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنْ غَضِبَ الحجّاج : في ذلك إشارة إلى أن العالِم أو المصلح يجب أن لا يحسب حسابًا لغضب السلطان أو الحاكم عندما يصدع بدعوته أو بقول الحق وبيانه للناس . 5 ـ فيتنمر الحجاج متحفزًا : دليل على شدة غضبه لدرجة أنه كاد يفتك بيحيى كالنمر الذي يتحفز للانقضاض على فريسته ، وكذلك كل حاكم ظالم لا يتورع عن محاولة البطش بمخالفيه . 6 ـ فيتطلع يحيى إلى الحاضرين ، ثم يصيح بصوت مجلجل ، وإيمانٍ وثّاب : فيه إشارة إلى أن هدف المصلح يهتم بأن تبلغ رسالته إلى الناس بالدرجة الأولى قبل أن تصل إلى الحاكم الظالم . 7 ـ وبدت الفرحة والشماتة في عيون الجالسين : دليل على العلاقة السيئة بين الحاكم الظالم وأفراد شعبه ، وهذا لن يكون في صالحه بحالٍ من الأحوال . | |
|