6 ـ سيميائية الأحداث :
تبدأ الأحداثبانتشار حب أهل الكوفة للحسين بن علي ، وتضايُق الحجّاج من هذا الحب ، ومقاومته لهبكل وسيلة . وهذا حال الكثير من الحكام الظلمة ، فهم يكرهون أن يلتفَّ الشعب حولأحد غيرهم ، حتى لو كان ميتًا ؛ لأنهم يعتبرون ذلك كرهًا للحاكم ، ومناهضة لهم بشكلغير مباشر .
ماذا يفعل الحجّاج لكي يبدد حب أهل الكوفة للحسين بن علي ؟ لقد قامبعدة خطوات هي :
1- عرف سبب هذا الحب ، وهو قرابة الحسين من رسول الله صلى اللهعليه وسلم ؛ فحاول أن ينفي أن يكون الحسين من ذرية محمد بن عبد الله صلى الله عليهوسلم ؛ لأن انتساب الحسين لفاطمة لا يغير من الأمر شيئًا ، فالأب هو المعتبر فيالنسب دون الأم على قول من قال :
بنونا بنو أبنائنا ، وبناتُنا بنوهنَّ أبناءالرجال الأباعدِ
2- استخدم أسلوب الخُطَب المطولة . وما أكثر ما يحاول الحكامالظلمة استخدام الخُطَب الرنانة للتغطية على جرائمهم ، وتقديم الكلام المعسوللشعوبهم دون عمل إيجابي نحوهم . وقد تحمل هذه الخُطَب التحذير المبطن للمخالفينولمن تحدثه نفسه بالخروج عليه .
3- استخدم الشدة بحق من يَثْبُتَ أنه يخالفالحجّاج ، سجنًا وتشريدًا . وهذا ديدن كل الظلمة على مرِّ الزمان ، حيث تمتلئالسجون بالمخالفين ، وتُستَخدَم بحقهم كل ألوان التعذيب والقسوة .
4- بثَّالعيون والجواسيس وكاتبي التقارير ليأتوه بأخبار من يهمس بمخالفة الحجاج . وهذاالأمر متعارف عليه أيضًا في كل زمان ومكان يوجد فيه حكام ظلمة .
إن هذه الخطواتالأربع التي اتخذها الحجّاج تكاد أن تكون هي نفسها التي يقوم بها الحكام الظلمة فيالماضي والحاضر وفي كل وقت وحين .
بعد ذلك وصلت للحجاج أنباء بأن يحيى بن يعمرسئل عن الحسين وانتمائه لمحمد صلى الله عليه وسلم فأجاب في المسجد الجامع : إنالحسن والحسين من ذرية رسول الله ، وإن الحجّاج يحكم ولا يفتي ، فإذا أفتى فعن غيرعِلم واعتقاد .
مما سبق يتضح ما يلي :
1- إن يحيى بن يعمر قد تحدَّى الحجاجصراحةً .
2- وأنه قد أعلن تحديه له على ملأ من الناس ، بل وفي المسجد الجامع ،حيث اعتبر الحجاج ذلك تحريضًا ضده .
3- إن يحيى بن يعمر قد طعن في علم الحجاج ،وقال بأنه ليس أهلاً للفتوى .
4- إن يحيى بن يعمر هو عالِمٌ جليل ، وهو مسموعالكلمة ، محترَم الرأي ، فإذا أفتى بما يعارض الحجاج فقد تمكَّن من قلوب الناس ،وذهبت دعوى الحجاج في الحسين أباديد .
لقد أدرك الحجاج ـ وهو الداهية ـ أنه لايستطيع أن يستعمل مع يحيى بن يعمر القسوة والشدة ، وإلا فإن ذلك سيؤلِّب الجماهيرعليه ، فماذا يفعل ؟
1- قرر أن يطلب من يحيى بن يعمر أن يأتي بنص واضح منالقرآن الكريم يؤيد دعواه .
2- عقد مجلسًا حاشدًا من أعوانه ووجهاء الكوفة حتىيشهدوا عجز يحيى بن يعمر في إثبات صحة دعواه ـ كما قدَّر الحجَّاج ـ .
3- حرصعلى أن يحضر المجلس شيعة يحيى بن يعمر ومقدِّرو علمه وفضله ؛ لينكشف أمامهم فيالمعمعة ، فيضيع ما يُنسب إليه من علم وثبات .
4- أرسل من يُحضر يحيى ليتجرع كأسالهزيمة على انكسار .
إن كل هذه الأمور تدل على عدة أمور من بينها :
1- إنالحجاج كان يحسِب ليحيى بن يعمر أكبر الحسابات . وهكذا فإن الحكام الظلمة يحسبونحسابًا للعلماء العاملين ، فلا يجب أن يخشى العلماء بطش الحكام .
2- إن الحجاجلم يجرؤ على استخدام الشدة بحق يحيى بن يعمر ، فليس أمامه إلا محاولة التغلب عليهوقهره بالحجة المفحمة ـ بحسب رأيه ـ .
تبدأ المناظرة ؛ فيسأل الحجاج يحيى بنيعمر عن صلة الحسين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيرد يحيى في كبرياء : الحسينوالحسن من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ غضِبَ الحجّاج . فيتنمَّر الحجاجمتحفزًا ويصيح : ألَدَيكَ دليلٌ من كتاب الله ؟ فيرد يحيى في ثقة بالغة : معيالدليل من القرآن ، فيستغرب الحجاج ويتهكم ، ويؤكد أنه قرأ القرآن مئات المرات فماوجد فيه أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله . ولكن يحيى بن يعمر يقرأ على الحاضرينالآيات ( 83 ـ 85 ) من سورة الأنعام، وفيها إثبات أن عيسى بن مريم من ذرية إبراهيم، وهنا يلتفت يحيى بن يعمر إلى الجمهور قائلاً : أيكون عيسى بن مريم من ذريةإبراهيم بنص القرآن ، ولا يكون الحسين من ذرية رسول الله ، وبينهما من القرابةالدانية أكثر مما بين عيسى وإبراهيم ؟مما سبق يمكن استنتاج ما يلي :
1- كانيحيى بن يعمر يردُّ على الحجاج في كبرياء ، وفي ثقة بالغة ، فلم يضعف أو يرتجف أمامالحجاج . وهذا درس للعلماء في أن لا يخشوا إلا الله ، مصداقًا لقوله تعالى : " الذين يبلِّغون رسالات الله ولا يخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله " .
2- إن يحيىبن يعمر كان على درجة من العلم والذكاء جعلته يستطيع استنباط الدليل على صحة رأيهمن القرآن الكريم ، بالرغم من أن غيره ـ ومنهم الحجّاج ـ لم يصلوا إلى هذاالاستنباط . وهذا دليل على أن العلم ليس كلمة تقال ، بل العالِم هو من يستطيعاستنباط ما لم يستطع غيره استنباطه ، وليس العلم ـ بالضرورة ـ مرتبط بالشهادات ؛فهناك من يحمل شهادة ، وهناك من تحمله الشهادة .
لقد جاء الدليل صاعقًا قاصمًا ،وقد اعتصم الحجَّاج بذكائه ليسعفه بردٍّ مضلِّل فما استطاع ، وبدت الفرحة والشماتةفي عيون الجالسين ؛ فزادت من ضيق الحجّاج وانبهاره ، وفي هذا دليل على كره الناسللحجّاج ولكل ظالم مستبد . ثم رأى الحجاج أن يتراجع في موقفٍ ضائق يضغط عليه بآصاره؛ فابتسم في تصنُّع وقال : اجلس يا يحيى ، فقد فاتني هذا الاستنباط .
إن ذلكيشير إلى عجز الحجّاج وفشله في مسعاه لإحراج يحيى بن يعمر ، فهل يستسلم ؟ هل يصرفالقوم وهو في حالة فشل ؟ كلا .. لأن كل ظالم مستبد يحرص على أن لا يظهر بمظهرالعاجز أمام الجماهير . هنا لجأ الحجّاج إلى ما اعتقد أنه يجيده ، وهو الفصاحة وعدماللحن في القرآن الكريم ، فسأل يحيى بن يعمر سؤال الواثق من نفسه : أتجدني ألحن فيقولي يا بن يعمر ؟ وهنا يفحمه يحيى بن يعمر مرةً أخرى بأنه يلحن ، حتى في القرآنالكريم ، وذلك حين رفع المنصوب في كلمة "أَحَبَّ " الواردة في الآية 24 من سورةالتوبة ؛ فتغير وجه الرجل وحدثته نفسه أن يهم بصاحبه ، ولكن انهياره النفسي أورثهترددًا لا عهد له به . وهكذا فإن الحق حين يصدع به صاحبه فإنه يلجم كل ظالم مستبد .
وهنا يبرز أحد المطبلين للسلطان ، فيحاول إنقاذ الموقف بتغيير مجرى الحديث ،فأخذ يسأل الحجّاج عن مدينة واسط التي شيدها باذلاًَ جهده الجاهد في التعميروالتثمير ، وكان الحجاج قد ارتاح إلى هذا الانتقال المنقِذ ، فأخذ يسهب فيما فعلهوأنفقه على بناء هذه المدينة ، ثم رأى أن يصانع يحيى ؛ ليظهر أمام الناس بأن هزيمتهلم تنل من نفسه ، فقال ليحيى : لم تذكر لنا رأيك في مدينة واسط يا يحيى ! فسكتالرجل ولم يردّ ، وتوجهت العيون إليه ، فزادت من حرج الحجّاج وتورطه ، فأعاد عليهالسؤال مغيظًا ، فقال يحيى : أيها الأمير ، ماذا أقول عن واسط ، وقد شيَّدْتَها منغير مالك ، وسيسكنها أهلك ؟!
إن هذا المشهد يشير إلى عدة أمور يجب أن لا تفوتنا، ومنها :
1 ـ كل حاكم ظالم له مجموعة من المنتفعين الذين يزينون أعماله للناسوينقذونه في المواقف الحرجة ، فيجب كشف ألاعيبهم ؛ لأن الحاكم الظالم يعتمد عليهماعتمادًا كبيرًا .
2 ـ إن الحاكم الظالم لا يستسلم بسهولة أما مناوئيه ، ولكنعلى العلماء والمصلحين أن لا ييأسوا من الاستمرار في قول كلمة الحق في سبيل الإصلاححتى يحققوا أهدافهم .
3 ـ إن السكوت في بعض المواقف أبلغ من الكلام ، كأن يطلبمنه الحاكم الظالم أن يبدي رأيه في أمرٍ ما ، فيرفض الكلام ، كما فعل يحيى بن يعمر .
4 ـ إن سكوت العالم في مثل هذه المواقف ليس ناتجًا عن ضعف فيه أو في حجته ،وإنما ليغيظ هذا الحاكم الظالم أو يحرجه أمام شعبه .
نفَذَ صبر الحجّاج ،وتلهَّب الجمر في عينيه ، ثم صاح : ما حملك على هذا ؟ فقال يحيى في اعتداد : ما أخذالله ـ تعالى ـ على العلماء في علمهم ألا يكتموا الناس حديثًا . فأطرق الحجّاجمنخذلاً ، وساد صمتٌ حائر غمر المكان لحظات ، ورأى أن يقوم بعملٍ ينقذ خشيته ، فصاحبيحيى : لا تساكنِّي ببلدِ أنا فيه ، فاذهب منفيًا إلى خراسان . وعندما ذهب يحيىإلى خراسان وجد صيته الطائر يسبقه هناك ، ورأى الجميع يتحدثون بمجابهته للحجاجمكبِرين مقدِّرين ، ودنا خراساني ، فسأله في تعجُّب : ألم تخشَ سيف الحجّاج ؟! فردَّ في إيمان الواثق : لقد ملأتني خشية الله ، فلم تَدَعْ مكانًا لخشية إنسان .
منقول للأهمية من منتديات الأوس التعليمية