q الأسلوب وطريقة العرض:
اعتمد شاعرنا في نصه -كما في غيره من النصوص – قوة اللفظة وإيحاءاتها وجزالة الأسلوب وغناه بالصور التعبيرية .
يبدأ شاعرنا نصه بالجار والمجرور ( بيافا ) ليوجه انتباه واهتمام السامع إلى أن حديثه سيكون عنها ، وشبه الجملة ( بيافا ) يتعلق بالفعل ( تمطر ) لا بالفعل ( حط ) ولو أعيد ترتيب مفردات البيت لكان ( تمطر بيافا عارض ودجا سحاب يوم حط بها الركاب ) فيوم وصول الشاعر ليافا كان الجو ماطرا ، و ( حُط ) فعل مبني للمجهول ، لمعرفة الفاعل الضمنية ولعدم أهمية ذكره ، و(الركاب ) تعني ( الراحلة ) أي الواحدة مـن الإبل واستعارها للطائرة ، ولذا وفـق الكاتب في استخـدام ( حط )التي تعني هبط ونزل والتي تتلاءم مع الطائرة ، في هذا اليوم ( تمطر عارض ) ،و( تمطر ) على وزن (تفعّل )الذي من معانيه حصول الفعل مرة بعد مرة أي تكرار المطر و( العارض ) السحاب المعترض في الأفق و ( دجا سحاب ) أظلم وهذا مؤشر على كثافته وكثرة ما يحمل من ماء وكذا على امتداده ، ونتساءل : هل كان الجو ماطراً حقيقة يوم قدوم الشاعر ؟ أم هي إشارة إلى أنه قدم جالباً الخير معه ؟ ولعل قصد الشاعر استقبال ( يافا ) له بالخير و الكرم والعطاء ، ورمز لكرم الضيافة بغزارة الأمطار.
ويقول ( وقفت موزع النظرات فيها ) منتقلا للحديث عن جمال يافا والوقوف هنا معنوي لا مادي ، بمعنى تأملت وعاينت ، و( موزع النظرات )هنا لا تفيد الحيرة والتشتت بل الانبهار فهو ينقل نظراته من موقع جميل إلى آخر ووفق في استخدام ( فيها ) فنقل النظر كان محصورا داخل مواطن جمال ( يافا ) ويكمل ( لطرفي في مغانيها انسياب ) و ( الطرف ) العين وقد تستعمل مجازا بمعنى النظر و( المغاني ) المنازل التي غني أهلها بها عن سواها والكلمة تشير إلى غنى ساكنيها ورضاهم كما تشير إلى تمسكهم بمدينتهم وعدم رغبتهم في تركها والهجرة عنها و( انسياب ) تعني امتداد ، في إشارة إلى اتساع المدينة وامتداد مبانيها الجميلة كما تحمل سهولة وانبساط الأرض ، وجملة ( لطرفي في مغانيها انسياب ) اسمية قدم الخبر وأخر المبتدأ وتقع في محل نصب حال ثانية للفاعل في ( وقفت ) .
ويكمل في وصف يافا وجمالها بقوله ( وموج البحر يغسل أخمصيها ) فهي ملكة محبوبة يتسابق لرعايتها والعناية بها الجميع ، فالبحر يرسل موجه لخدمتها بغسل قدميها توددا لها وحبا وأخمص القدم باطنها الذي يرتفع فلا يلامس الأرض ، و ( بالأنواء تغتسل القباب ) ، والأنواء الأمطار الشديدة والباء في ( بالأنواء) للاستعانة فالقباب تستخدم الأمطار الشديدة لغسل قبابها في إشارة إلى شدة نظافتها وطهارتها ونقائها وحرصها على الظهور بأبهى صورة .
ويظهر جمال ( يافا ) أيضا في مزارعها ( وبياراتها ضربت نطاقا يخططها كما رسم الكتاب ) فبيارات يافا تحيط بها كالنطاق ( الحزام ) وضمير الغائبة الهاء ( يخططها ) قد يعود على البيارات فيقسمها بما بين أشجارها من ممرات طولية وعرضية إلى أجزاء تكسبها رونقا وجمالا ، وقد يعود الضمير على ( يافا ) فالبيارات تحيط بها وتتخللها وكأنها تقسمها إلى أحياء متناسقة ، ونحن إلى الرأي الأول أميل الذي يتوافق مع كون بياراتها نطاقا يحيط بها . ويشبه شاعرنا الخطوط في بياراتها كرسم في كتاب ، ويؤكد الشاعر أن ( موزع النظرات ) دليل إعجاب بقوله (قد أخذت بسحر يافا ) ، وأخذت – هنا - بمعنى استولى علي وشدهت بجمال يافا ، بل و( بأتراب ليافا تستطاب ) والمقصود بأتراب باقي المدن الفلسطينية مما يشير إلى تنقله بين هذه المدن وتستطاب تعني تستحسن ويرتاح لها فهي تشاركها جمالها .
ويقول ( فلسطين – ونعم الأم ، هذي بناتك كلها خود كعاب ).و( فلسطين ) نعم الأم ، لرعايتها لبناتها( مدنها ) وتجميل ، وتهذيب سلوكياتها فمدنها كلها (خود ) جميلة حسنة الخلق و(كعاب ) بمعنى ناضجة واعية مدركة لمسئولياتها وواجباتها . وينتقل إلى بيت يصلح أن يكون البيت الأول في النص لأسبقيته الزمنية ، يقول ( أقلتني من الزوراء ريح إلى يافا ) .
(وأقلتني ) تعني حملتني ورفعتني عاليا ونقلتني من الزوراء ( بغداد ) والزوراء تعني الأراضي الواسعة القفراء ، وهي تسمية قديمة وتقديم شبه الجملة ( من الزوراء ) لاستقامة الوزن وليست لغرض بلاغي ، حلق بي عقاب ، طار في حلقات والعقاب من كواسر الطير وهي كلمة تطلق على المذكر والمؤنث ويتصف العقاب بالقوة وسرعة الطيران ويقصد به – هنا - الطائرة .
ويقول ( لما طبق الأرج الثنايا ) و( طبق ) هنا بمعنى أطبق أي عم وانتشر ومعنى الثنايا الطرق والممرات بين الجبال واستخدمت هنا بمعنى الأمكنة و( لما – هنا - شرطية حينية ، ويكمل و( فتح من جنان الخلد باب ) وضعفت تاء ( فتح ) للمبالغة و( جنان الخلد ) جنات النعيم ، واكتفى الشاعر بـ ( باب) أما للضرورة الشعرية ( الوزن ) أو لأن ( بابا ) واحدا من جنات الخلد ،أو نافذة واحدة يكفي فتحها ليعم الأرج الأرض بكاملها وعطف الشاعر هنا السابق على اللاحق إذ أن ( فتّح من جنان الخلد باب ) أسبق في موقعها الزمني من ( طبق الأرج الثنايا ) بل وهي سبب لانتشار الأرج وقد يكون الترتيب صحيحاً على اعتبار التشبيه ( وكأنه فتح من جنان الخلد باب ) ويكمل ( ولاح (اللد) منبسطا ) ليشير إلى موقع اللد القريب من يافا والأكثر انخفاضا منها بحيث يراه ويتحدث عن خصوبته (عليه من الزهرات يانعة خضاب ) و ( الزهرات ) جمع مؤنث سالم وهذا الجمع يفيد – عادة – القلة على عكس جمع التكسير أو جمع الجمع ( أزاهر – و أزاهير ) في أفادتها الكثرة التي رغب فيها الشاعر و ( يانعة ) ناضجة طيبة والخضاب التلون خاصة باللون الأخضر و الزهرات لا توصف بالخضاب إلا إذا كان الاستخدام مجازيا وعنى بـ( الزهرات ) الأشجار ، ويحرك المشهد مشاعره ويعود به إلى العراق ويرى التطابق بين الجمال هنا والجمال هناك وطبيعة الأرض وخيراتها ، ويذكر تمزق العالم العربي إلى وويلات .
فيكمل ( نظرت بمقلة غطى عليها من الدمع الظليل بها حجاب ) وقد يكون النظر هنا بصريا وتكون المناظر المشابهة لواقع وطنه أدمعت عينيه وأضعفت قدرته على الرؤية الصافية، ولكننا نزعم أن هذا التعبير بعيد عن غرض الشاعر وأن النظر هنا عقلي واستخدم المقلة ( العين ) رمزا للعقل الذي غطاه الدمع الظليل (غرابة الأحداث وغموضها ) فأصبح غير قادر على إصدار أحكام سديدة فهو غير قادر على التصديق ( أحقا بيننا اختلفت حدود ) وأصبح الانتقال من بلد إلى آخر يحتاج إلى(جواز سفر وتأشيرة مرور ) والاستفهام – هنا – يفيد الاستنكار المخلوط بالتعجب وعدم التصديق فـ ( ما اختلف الطريق ولا التراب ) وقد يكون التعبير حقيقيا و المقصود ، لا تختلف الأرض وتضاريسها عن غيرها من بقع هذا الوطن ولا يختلف الوجه العربي هنا في ملامحه عن غيره من الوجوه ولا اللغة أو الخط . وقد يكون الاستخدام هنا مجازيا وهذا ما نعتقده – فالتساؤل ( أحقا بيننا اختلفت حدود ) تساؤل عن الاختلاف في التطلعات والرؤى ، ( وما اختلف الطريق ولا التراب ) تعبير عن عدم اختلاف الأهداف وأساليب تحقيقها ( ولا افترقت وجوه عن وجوه ) في انتماءاتها وسعيها و( افترقت ) تفضل ( اختلفت ) لأنها تعني الاختلاف والابتعاد المادي أوالمعنوي . ( ولا الضاد الفصيح ) تعبير عن هذه الأهداف و ( الكتاب ) قد يعني التعبير المكتوب وقد تعني ما بيننا من عهود ومواثيق ، وقد تعني الإيمان و التوجه الإسلامي باعتبار الكتاب دين الله .ويوجه حديثه إلى فلسطين أرضاً وشعبا فيقول ( يا داري إذا ضاقت ديار ) و( ضاقت ) هنا معنوية و المقصود ( إذا ضيقت علي ديار ) بفعل الاستعمار أو حجر الحكام على الفكر وأصحاب الرأي و ملاحقتهم ، و( ديار) جاءت نكرة لتفيد عدم التحديد فالمحاصرة غير محصورة في العراق ، بل هي في كل مكان يخشى القائمون على إدارته الآراء المناقضة لتوجهاتهم ، فيتصدون لكل وطني غيور ، وجواب الشرط لـ ( إذا ضاقت ديار ) محذوف يفسره ما قبله ما ( يا صحبي إذا قل الصحاب ) و يقل الصحاب عند الشدة ، وعند الحاجة الحقيقية لهم فأنتم – في هذا الوقت العصيب – ملاذي وملجئي ، و البيت يحمل اعترافاً وتقديراً من الشاعر للوطن و أهله ، بل ويظهر أن الاستقبال لم يكن على مضض ، بل برغبة و حفاوة