( يا متسابقين إلى احتضاني ) و (الاحتضان ) يأتي أيضا بمعنى (حمايتي والدفاع عني ) واستخدم في ندائه النكرة غير المقصودة ، ليفيد عدم تخصيص فئة محددة ( المستقبلين له ) بل الجميع وكأنه بهذا يشير إلى المعنى الثاني للاحتضان-الحماية والمساندة – يقول (شفيعي عندهم أدب لباب ) و الضمير في ( عندهم ) للغائبين إما ليؤكد ما ذهبنا إليه من استخدامه في النداء النكرة غير مقصودة من أن المخاطبين الجميع ، والجميع يشمل غير الموجودين أيضا ، أو على سبيل (الالتفات ) البلاغي – الانتقال من صيغة المخاطب إلي صيغة الغائب – و الشفيع ( أدب لباب ) – خالص ونتساءل أدب من ؟ هل قصد الشاعر أدبه كان الشفيع له ، أم أدب مستقبليه آم الآمرين معا ، ولا نظنه في موضع الفخر بذاته ، بل بمستقبليه.
ويكمل ( ويا غر السجايا ) – مخاطبا – على سبيل الاستعارة – الصفات الشريفة أو لنقل القيم والشيم : إن كرم أهل فلسطين و معاملتهم الطيبة لم يكن منا ( لم يمنوا بما لطفوا علىّ ) وتحمل (لم يمنعوا ) معنيين الأول أنهم لم يفعلوا لخيري السابق عليهم ، فهم يعاملونني كما سبق وعاملتهم - ونحن لا نرى أن الشاعر قصد ذلك – و الثاني ( لم يمنوا ) لأن من خصالهم النبيلة انهم يقدمون ما يقدمون لأنه ينطلق من أخلاقهم لا للتفاخر و المن ، فليس المن من صفاتهم ، و( لم يحابوا ) لم يكن هذا محاباة لي ، ويجوز فيها أيضا المعنيان ، نرفض الأول ونظهر الثاني ، لم يحابوني بلطفهم فلطفهم يوزعونه بالتساوي ، وعلى كل من يحتاجه .
بعد أن يعدد خصال شعب فلسطين ينتقل لطرح رؤيته القومية ( ثقوا أنا توحدنا هموم مشاركة ) ونحن لسنا مع استخدام فعل الأمر ( ثقوا ) الذي يفيد ( شك ) الشاعر في تصديق السامع له ، وكأن ما سيطرحه قضية يؤمن – هو- بها ولا يؤمن بها السامع ( شعب فلسطين ) ، بل وليزيل هذا الشك المفترض والمتوقع ويستخدم التوكيد ( إنا ) لكننا نجد له عذراً إذا أراد أن يفرق بين الشعوب والحكام فإذا كنتم تشعرون أن الملوك والرؤساء لا يشاركونكم همومكم ، فإن الشعوب معكم و تشارككم هــذه الهموم ، بل إن هـــذه الهموم ( توحدنا ) و تصهرنا في بوتقة واحدة وهذه الهموم ليست عابرة آو مرحلية بل (هموم مشاركة ) و استخدام صيغة الفاعل ليشير إلى أنها تشاركنا حياتنا وترافقنا عمرنا ويكمــل ( ويجمعنا المصاب ) واستخدام التنكير ( مصاب ) لضرورة الوزن إذ أن الأصوب ( يجمعنا المصاب ) بـ ( أل الجنسية ) لا ( العهدية ) لأنها غير محصورة في (مصاب ) بعينه ويكمل ( تشع كريمة في كل طرف عراقي طيوفكم العذاب ) ووفق الشاعر في استخدامه كلمة ( تشع )التي تفيد إرسال الأشعة ونشرها وتوزيعها على كل( طرف عراقي ) واستخـدم ( في ) لا ( من ) فالأشعة لا تخرج من العيون العراقية بل تستقر فيها والعين عضو الأبصار و تنقل أعصاب العين هذه الإشعاعات إلى الدماغ ، فأنتم تتواجدون في عيوننا وعقولنا وفاعل ( تشع ) جاء متأخراً ( طيوفكم ) لأن الشاعر أراد أن يؤكد أن هذا الوجود في كل طرف عراقي ويصف هذه الطيوف (الأخيلة ) التي لا تفارقنا حتى ونحن نيام لأنها كريمة الأصل (عذبة ) مستطابة مرغوب فيها . ويكمل ( وسائلة دما في كل قلب عراقي جروحكم الرغاب ) وترتيب البيت (وجروحكم الرغاب سائلة دما في كل قلب عراقي ) والتقديم والتأخير لضروريات الوزن والقافية لا لتخصيص الخبر أو إظهار أهميته ولو أراد إبراز الأهمية لبدأ بـ ( في كل قلب عراقي ) و ( دماً ) مفعول به لاسم الفاعل ( سائلة ) وإضافة قلب إلى ( عراقي ) للتحديد والتخصيص و ( والجروح الرغاب ) الواسعة العميقة المؤلمة والنازفة دماً .
ويكمل – وكأن البيتين السابقين اللذين تحث فيهما عن علاقة أهل العراق بأحداث فلسطين معترضان – ما بدأه من توحد في الهموم والمصاب ( يزكينا من الماضي تراث ) فتاريخنا واحد وأمجادنا واحدة و ( في مستقبل جذل نصاب ) والجملة معطوفة على ما سبقها وكأن مراد الشاعر (ويزكينا نصاب في مستقبل جذل ) ، و (يزكي ) يطهر ويصلح ويعّدل ويرشح و( نصاب ) الأصل ، فأصلنا يصقلنا ويعيدنا إلى جادة الطريق والى مستقبل مفرح وسعيد وهنيء .
وتأتى لحظة الوداع والعودة إلى العراق فيقول ( لئن حم الوداع فضقت ذرعاً به ) واللام التي تسبق حرف الشرط ( إن ) لام القسم ، وعليه يرى الكثير من النحاة حذف جواب الشرط وبقاء جواب القسم ، ولكننا نزعم هنا أن جواب القسم هو الذي حذف ذلك أن جواب القسم لا يقترن بـ (الفاء ) ولكن أين جواب الشرط ؟ هل هو ( فضقت ذرعاً به واشتف مهجتي الذهاب ) أم (فمن أهلي إلى أهلي رجوع ) ، ونحن نرى أن الأولى أقرب إلي المعنى المراد مع جواز الثانية لكن هل هذا الجواب مما يجب اقترانه بإلفاء ؟ فهي ليست من الحالات التي ترددها كتب الإعراب فهي ليست طلبية أو اسمية أو... .
ترى كتب النحو العربي أن جواب الشرط إذا كان ماضياً لفظاً ومعنى متصرفا اقترن جوابه بالفاء على تقديم ( قد) محذوفة ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى في سورة يوسف ( إن كان قميصه قد من قُبل فصدقت.....) أي ( فقد صدقت ) وإن كان يحمل معنى الاستقبال مع وعد أو وعيد جاز اقترانه بالفاء كقوله تعالى ( ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم ...) ونحن لا نستطيع اعتبار ( فضقت ذرعاً به ) ماضياً لفظاً ومعنى لوجود القسم المتمثل في اللام والسابق على الشرط ( إن ) ولا تحمل العبارة معنى الوعد أو الوعيد فيصدق الاحتمال الثاني.
لذا نحن نعتقد أن ( فضقت ذرعاً به ) ليست جواباً للشرط ولكنها معطوفة عليه فهي تحمل معنى ( الواو ) مع إفادتها الترتيب والتعقيب وكأن العبارة ( إن حم الوداع وضقت ذرعا به واشتف مهجتي الذهاب...) ويكون جواب الشرط هنا في البيت الثاني ( فمن أهلي إلى أهلي رجوع ) ويكون جواب القسم محذوفاً ، إذ لا تصلح أي جملة منها جواباً للقسم .
و( ولئن حم الوداع ) وحم بمعنى سخن وارتفعت حرارته و المقصود ما يلحق اقتراب لحظة الوداع من انفعالات و عواطف جياشة ( فضقت ذرعاً به ) و ( ذرعاً ) بمعنى اتساعاً ومساحة و ( ضقت ذرعاً ) ضاقت المساحة أو اتساع احتمالي و المقصود لم أعد قادراً على الاحتمال و( اشتف مهجتي الذهاب ) و ( اشتف ) شرب ما في الإناء كله أي ذهب الوداع بما في وجهي من حسن ونضارة ولكن ما يخفف عن الشاعر رحيله أن سفره داخل بيته وبين أسرته ( فمن أهلي إلى أهلي رجوع ) وهي جملة اسمية ، والرجوع لا تصلح مبتدأ مؤخراً لنقص المعنى بل نرى أنها تصلح خبرا لمبتدأ محذوف تقديره رجوعي وكأن الجملة ( فرجوعي رجوع من أهلي إلى أهلي ) و ( إيابي إياب من وطني إلى وطني ) .
وقد تعرب ( فلسطين ) منادى مبني على الفتح في محل نصب وقد نونت فلسطين لضرورة الوزن الشعري وفي تنوينها تجاوزان الأول تنوين الممنوع من الصرف والثاني تنوين المنادى العلم , وقد تعرب فلسطين خبرا مقدما للمبتدأ ( هذي ) ومع جواز الإعرابيين فنحن إلى الأول أميل ، ( ونعم الأم ) جملة مدح مبتدأها المؤخر محذوف و( هذي بناتك ) مبتدأ وخبر و ( كلها ) قد تعرب مبتدأ لما بعدها ( هذي بناتك ، كلها خود كعاب ) وخود كعاب خبر إن لـ ( كل ) ، وإذا أعربت توكيدا فنحن بحاجة إلى مبتدأ محذوف للخبرين ( خود كعاب ) لأنهما لا يصلحان نعتين لـ ( بناتك ) لعدم جواز نعت المعرفة منكرة .
أما على إعراب ( فلسطين هذي ) جملة اسمية في محا نصب مقول القول، تصبح ( بناتك ) مبتدأ خبره (خود كعاب ) و( كلها ) توكيد لـ ( بناتك ) .