ثالثاً:التحليل الأدبي
التمهيد:
أ- نوع النص: النص من الشعر الغنائي الذي يقوم على التعبير عن الحالات الوجدانية من عواطف وانفعالات, فتجربة الشاعر في هذا النص تجربة ذاتية, حيث جاءت قصيدة البلبل لوحة شعرية وصفية صوَّر فيها الشاعر بلبلاً يرسل ألحانه الشجيَّة, ويصدح بغنائه عن سجية في أحضان الطبيعة, ويعبَّر فيها عن تأثره العميق بهذه الألحان الحزينة.
ب- صاحب النص: محمد محمود الزبيري, شاعر يمني ولد في صنعاء سنة 1919م تلقَّى علومه في حلقات المساجد, ثم في المدرسة العلمية في صنعاء, ثم التحق بكلية دار العلوم في القاهرة سنة 1939م, وكانت حياته في وطنه حافلة بالنشاط السياسي, فسُجن وأُبعد عنه قسراً مرات عديدة, ثم عاد إليه عقب نجاح ثورة 1962 م, وشغل منصب وزير التربية والتعليم إلى أن توفى عام 1965م. واكب الشاعر أحداث وطنه, ونظم شعره في التعبير عن معاناة الشعب اليمني وهمومه الذاتية. جمع شعره في ثلاثة دواوين هي: (ثورة الشعر) و( صلاة في الجحيم) و( نقطة في الظلام).
ج- العصر والبيئة التي ظهر فيهاالنص: ظهر النص في القرن العشرين, وذلك عندما أُبعد الشاعر عن وطنه بسبب نشاطه السياسي ضد الاستعمار البريطاني, فنظم هذه القصيدة للتعبير عن همومه وحنينه لوطنه الذي أُبعد عنه.
د- مناسبة النص: تألم الشاعر بعد نفيه عن وطنه, فشدا الشعر منفَِّساً عن أحزانه, ولاذ بالطبيعة التي أَحَّبها, فخلع أحزانه على بلبلها, ولكنه لم يفقد الأمل في مستقبل وطنه وعودته إليه.
تحليل المضمون تحليلاً أدبياً:
الموضوع وأهميته:
يتحدث الشاعر في هذه القصيدة عن شوقه وحنينه إلى وطنه بعد أن نفي عنه وجعل من البلبل محرِّكاً لمشاعر الشوق والحنين إلى هذا الوطن. وموضوع الشوق للوطن موضوع في غاية الأهمية لمن تغرَّب عن وطنه وعاش بعيداً عنه ، سواءً بالنفي- كما حدث للشاعر- أو بالهجرة- كما يحدث للبعض لسبب من الأسباب – أو لمن يسافر بعيداً عن وطنه طلباً للعلم أو التجارة ......إلخ.
الأفكار وترابطها:
جاءت أفكار القصيدة مترابطة, وإن كانت غير متسلسلة تماماً, كما لو كانت أفكاراً متداعية, كل فكرة منها تستجلب فكرة أخرى.
فالشاعر قد رأى بلبلاً يطير بعيداً عن وطنه فبعث في نفسه الشوق والحنين للوطن لأنه يفتقر إلى العيش في وطنه, ثم نجده يسمع غناء البلبل فيسري هذا الغناء في مجرى دمه, ويخال هذا البلبل يرتل ترتيلاً حزيناً من شدة شوقه لأهله ووطنه ، كيف لا, وقد ابتلي ذلك البلبل بما ابتلي به العاشقون من وجدٍ ولوعة وفراق للأحبَّة والديار. فهذا البلبل يغلي شوقاً وحنيناً ، وإن كان لا يظهر عليه ذلك , ولا يحس به إلا الشاعر الذي يسمع حنينه فيؤثر في قلبه ووجدانه. ثم يستغرب الشاعر من هذا البلبل الحزين على فراق إلفه وحبيبه رغم أنهما ليسا بعيدين عن بعضهما, إنما تفصلهما دوحة فقط , وليس إلفه بعيداً عن ناظريه, فلماذا البكاء والعويل؟! أم أنَّ هناك الوشاة والحاسدون الذي يحاولون التفريق بينهما, تماماً كما يحدث لدى البشر؟!
بعد ذلك يخاطب الشاعر البلبل طالباً منه عدم الحزن والبكاء والعويل, وكأنه يوجه الخطاب لنفسه الحزينة الشاكية الباكية, طالباً منها أن لا تكترث بأي شئ, بل تسرح وتمرح وتغني تفاؤلاً بقرب الفرج والعودة إلى الوطن والأهل والأحباب.
عمق المعاني: تتسم معاني القصيدة بالعمق وعدم السطحية, فهي تشتمل على جوانب عاطفية وفكرية عديدة, كالشوق والحنين للوطن, والتأثر الشديد بالبلبل الحزين لفراق إلفه. وقد بالغ الشاعر واشتطَََََّ كثيراً في تصوير معانيه, فجعل البلبل خالقاً أول للصبابة, وجعل غناءه ترتيلاً لفن الهوى والصَّبا, بل جعل في عالم البلابل وشاة وجواسيس وناقلين للأخبار بين المحبين.
سمو المعاني: تدعو القصيدة إلى معانٍ سامية نبيلة كالشوق للوطن والحنين إليه, والشوق للأهل والأحباب, والتفاؤل بقرب الفَرَج. ولكن هناك بعض المعاني غير السامية كتصوير البلبل بالخالق وتصوير غناءه بالترتيل, فهذا محذور دينياً.
شمول المعاني:
- يدور النص حول واقع إنساني يتعرض له البشر, وهو البعد عن الأهل والوطن, والشوق والحنين إليهم, وتمني العودة إليهم.
- كما أن العواطف التي عبَّر عنها الشاعر في قصيدته عواطف إنسانية تقع في جوهر الإنسان وطبيعته, حتى وإن خلعها الشاعر على ذلك البلبل الحزين.
- وأما القيم والاتجاهات التي تحملها القصيدة فهي كلها قيم إنسانية ليست خاصة بفرد دون فرد أو شعب دون آخر، كالشوق للوطن, والتفاؤل, ورفض التصنُّع، والاستمتاع المباح بالمناظر الطبيعية، والبعد عن الصفات السيئة كالتجسس والوشي.
جدة المعاني وأصالتها:
أ ـ كثير من المعاني الواردة في القصيدة تتميز بالجدة والأصالة من مثل:
- تشبيه البلبل بالخالق الأول للصبابة.
- تشبيه غناء البلبل بالترتيل.
- جعل الهوى والصَّبا فناً له أصوله وقواعده.
- تشبيه أنين البلبل بانسياب الجدول من نبعه.
- تشبيه الدوحة بالمحفل.
- ترحيب البلبل بالشمس كما لو كانت ضيفاً عزيزاً.
ب ـ وهناك الكثير من المعاني المعادة المكرورة مثل:
- تشبيه البلبل بالعاشقين وتشبيه معاناته بمعاناتهم.
- تصوُّر أن هناك وشاة وجواسيس وناقلي أخبار في علام الطيور أيضاً.
- بكاء البلبل وشدوه وحنينه.
- تشبيه الشاعر نفسه ( ضمناً) بذلك البلبل الحزين.
- العاطفة: الطابع الغالب على القصيدة هو الأسى العميق, والحزن الشديد, والشوق والحنين, وهي عواطف صادقة نظراً لأن الشاعر كأن بعيداً عن وطنه واهله وأحبابه, فالقصيدة تعبَّر عن عواطفه حقيقةً وليس تصنُّعًا أو تكلُّفًا. وقد جاءت هذه العواطف قوية جياشة نحسُّها تخرج من صميم قلبه نارًا ملتهبة، ونلمس صدق العواطف وقوتها من خلال مايلي:
•الألفاظ التي استخدمها الشاعرمثل: الصبابة – الهوى – الصَّبا – شجيًا – نُكِبْتَ – حُمِّلت – مرجل – مشعل – مثقل – أنينك – الوجد – ما يقتل – تُعوِل – لؤم – تبكي – الخُطوب – يُذهِل.
•المعاني التي استخدمها الشاعر لدرجة أنه اشتطَّ كثيرًا في بعضها مثل:
- كأنك خالقها الأول.
- غناؤك يملأ مجرى دمي.
- يفعل في القلب ما يفعل.
- ترتل فن الهوى والصَّبا.
- هدوؤك في طيِّه مرجل.
- أنينك ينساب بين الغصون كما انساب من نبعه الجدول.
- وفيه من الوجد ما يقتل ----- إلخ.
الخيال: أبرز ما يتجلى به الخيال هو إضفاء المشاعرالإنسانية على الجمادات والحيوانات والطيور، وقد ظهر ذلك في القصيدة مثل:
- تشبيه البلبل بالعاشقين وما يعانون من لوعة ووجد.
- تخيُّل أن هناك وشاة في عالم الطير والبلابل كالوشاة بين المحبين في عالم البشر.
هذا إضافة إلى بعض الأخيلة الواردة في القصيدة مثل:
- تخيُّل الغناء شيئًا ماديًا( سائلاً) يجري في أوردة الشاعر وشرايينه .
- تخيل البلبل إنسانًا يرتل آيات من ذكر الحكيم.
- تخيل أنين البلبل جدولاً رقراقًا ينساب من نبعه ليسقي الظمآى.
- تخيل البلبل يغني وحوله الجموع المصفقة المهلِّلة، وهو لا يأبه بتصفيقهم وتهليلهم.
- تخيل البلبل يرحب بالشمس وقد حلَّت ضيفًا عزيزًا عليه.
3- تحليل الشكل تحليلاً أدبيًا:
•الألفاظ: جاءت ألفاظ القصيدة سلسلة تتميز بالسلامة والبساطة والوضوح، مع كونها قوية متماسكة تؤثر في النفس وتثير شجونها وأحزانها مثل: الصبابة – نُكبِت – مرجل – مشعل – أنينك – يسري – الوجد – تعوِل – تبكي – يُذهل.
•ولم يكن الشاعرفي هذه القصيدة حريصًا على التلاعب بالألفاظ، واكتفى بتصوير عواطفه تصويرًا بارعًا مؤثرًا.
ويمكن تصنيف بعض الألفاظ الواردة في القصيدة إلى:
- ألفاظ تدل على الشوق والحنين مثل: الصبابة – الصَّبا
- ألفاظ تدل على الحزن: شجيًا – أنينك – تُعوِل – تبكي.
- ألفاظ تدل على التفاؤل: تنفس – الرياض - الشمس – الشروق.
- ألفاظ تدل على الفرح والسعادة: غناؤك – تغني – ترقص – ترحب.
•التراكيب: جاءت تراكيب القصيدة فصيحة سلسلة لا يتعثر فيها اللسان ولا الذوق، ولا تقع فيها على تنافر في الألفاظ أو غموض أو مخالفة لأقيسه اللغة، مع استخدام التقدم والتأخير أحيانًا من مثل:
- "فؤادك من لوعةٍ مثقل" ، أصلها: فؤادك مثقلٌ من لوعةٍ .
- " كما انساب من نبعه الجدول " ، أصلها : "كما انساب الجدول من نبعه".
كذلك أكثر الشاعر من استخدام التشبيه مثل:
- كأنك خالقها الأول..
- كما انساب من نبعه الجدول.
- كأن أزاهيرها محفل.
- كأن حماك لها موئل.
ويلاحظ أن الشاعر استخدم التركيب " بعيدًا على " في البيت العاشر، والأصح استخدام "بعيدًا عن" . كذلك استخدم الشاعر التركيب " ماإنْ تحس" ويقصد هنا النفي ، أي" لا تحس"، فالتركيب بعيد عما هو دارج ومألوف.
•الأسلوب: تميز أسلوب الشاعر في هذه القصيدة بما يلي:
- غلبة عنصر العاطفة على القصيدة كلها.
- الاعتماد كثيرًا على التشبيه والاستعارة.
- بساطة الاسلوب والبعد عن وعورة الكلمات والتراكيب والمصطلحات.
- الخلو من الأخطاء اللغوية والنحوية.
- المبالغة أحيانًا كما في البيتين الأول والثالث.
- أسلوب الشاعر صور العاطفة تصويرًا بليغًا مؤثرًا.