( الأخذ بأوامره والابتعاد عن نواهيه ) وينطبق هذا على المتجالسين في الله والمتزاورين فيه والذين يبذلون لوجه الله ، لا طمعاً في مردود اقتصادي أو معنوي .
ويتحدث عن كيفية بناء المحبة بين الناس ووسائلها ، ومنها ( تبادل التحية بين الجلساء ) و تبادل على وزن ( تفاعل ) تفيد المشاركة في الفعل ، وتبادل التحية تضع أرضية جيدة لبناء المحبة ، ويستشهد بقول الرسول ( والذي نفسي بيده ) قسم بالخالق الذي يملك نفسي والقسم للتوكيد ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا )و( حتى ) هنا بمعنى ( إلى أن ) فالإيمان شرط لدخول الجنة ، والمحبة شرط الإيمان ، فالمحبة شرط دخول الجنة ، و( الواو ) في ( أو أدلكم ) زائدة ( أو أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتهم ؟ ) وغرض الاستفهام هنا إثارة الانتباه والتشويق ، بل والتلهف للإجابة ، وبعد الاستفهام كلام محذوف وكأنهم قالوا : ( نعم يا رسول الله ) . فقال – صلوات الله عليه : ( أفشوا السلام بينكم ) و ( أفشوا ) أقوى في دلالتها من ( انشروا ) ، فالنشر ذيوع ، ولإفشاء ذيوع وكثرة .
وينتقل إلى عامل آخر يحقق المحبة ( الحرص على الإصلاح بين المتشاحنين ) ، والحرص دليل قناعة ورغبة وإصرار ، ففيها تكرار للمحاولة حتى تحقيق الإصلاح و ( الإصلاح ) زوال للفساد ، وجلب للمحبة و ( المتشاحنين ) تعني المتباغضين المتعادين . بل ويشير إلى طريقة الإصلاح ( التوفيق بين وجهات النظر ) ، و ( التوفيق ) تشير إلى البحث عن نقاط الاتفاق بين المتنازعين والتقريب بين وجهات النظر ، وصولا إلى نقاط الالتقاء . ويظهر لنا النتيجة( تصفية القلوب من الضغائن ) و ( التصفية ) إزالة لكل ما يكدر ، ، وفي العبارة استعارة و ( تنقية لها من شوائب الأحقاد ) وفي العبارة استعارة أخرى وفي العبارتين توكيد بتكرار المعنى ، ويبين أن التشاحن و التنازع والحقد يولد ( التنافر) ، وأن الإصلاح يصفي القلوب ( ما لحق بها من تنافر ) مبيناً بعض أسباب هذا التنافر .
ويعلي من قيمة رجال الإصلاح فهم ( يبغضون الشر جملة وتفصيلا ) أي في كل أحواله وهم يحبون العلاقات التي تقرب الأفــراد لذا ( يمقتون الشتات مقتاً شديداً ) وفــي العبارة توكيد بالمفعول المطلق ، و ( المقت ) شدة الكره ، لذا تراهم ( يسعون بين الناس بالخير ) والسعي يتطلب الحركة والعمل ، وهذه الفئة تتمتع بالقدرة على المحاججة والإقناع ( مبطلين عمل الشيطان ) ، ( فهم كالماء للنار ) وكان الأفضل أن يترك الكاتب وجه الشبه لقدرة القارئ على الاستنتاج ( لا يبقى بسببهم بين الإخوان إلا الود والوئام ) والجملة تحوى توكيداً بالقصر وتبرز دور المصلحين ( بسببهم ) ، و ( الإخوان ) تعني حالهم قبل النزاع وبعد الصلح ، ونعتقد أن تقديم ( الوئام ) على ( الود ) أكثر منطقية فالأولى تسبق الثانية وتحقق وجودها .
ومن وسائل بناء المحبة ( تبادل الزيارة بين الجلساء ) ، و ( التبادل تعني المشاركة في الفعل من الطرفين ، والمقصود بـ ( الزيارة ) التي لا تقوم على مصالح مادية ، بل تحقيق الألفة بين الجلساء ، وإذا كان الكاتب لم يوفق في استخدام ( الجلساء ) في أكثر من موقع إلا أنه قد وفق هنا ، لأن ( الجلساء ) لم يصبحوا(أحباء ) بعد . ويستشهد بقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – : ( من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ، ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك ، وتبوأت منزلا في الجنة ) , ( عاد ) بمعنى زار إلا أنها لا تستخدم إلا للمريض ، وقدم زيارة المريض لحاجته لها وتخفيفها عنه ، واستخدم ( مريضاً وأخاً ) نكرة لتفيد عدم التحديد ، وعدم أهمية ذكر الفرد مقابل أهمية ذكر الفعل و ( زار أخاً في الله ) تعني زيارة لوجه الله ، لا لمصلحة دنيوية ذاتية خاصة ، و ( ناداه مناد ) وبعـد مناد نعت محذوف يمـــكن إدراكه وتقــديره من قـول الرسول ( تبوأت من الجنة منزلا ) .
و ( طبت ) بمعنى حسنت وزكوت وطهرت وبوركت ، و ( طاب ممشاك ) أي عملك وطريقك و ( تبوأت من الجنة منزلا ) ، ( تبوأ ) نزل وأقام ،( من الجنة ) قد تكون ( من ) بمعنى ( في ) ( تبوأت من الجنة منزلا ) وقد تكون تبعيضية ( تبوأت بعض الجنة منزلا ) و ( منزلا ) مكاناً ( مادياً أو معنوياً ) .
ومن الوسائل التي تؤدي للمحبة ( التعاون فيما بينهم ) وفي ( التعاون ) مشاركة و ( فيما بينهم ) مؤشر على اتحاد الكلمة والتوجه ، ويبين قيمة هذا التعاون ( ليكونوا قدوة لغيرهم ) ووفق الكاتب في استخدام ( ليكونوا ) التي تفيد البقاء والثبات ( لتبقوا قدوة لغيرهم ) لا ( لتصيروا ) التي تفيد التحول وبعد ( قدوة ) نعت محذوف مدرك من السياق تقديره ( حسنة ) وغيرهم ( غير المتعاونين ) و ( بخاصة في الشدائد ) تخصيص للحاجة إلى التعاون والحاجة إلى القدوة ( امتثالا لقوله – تبارك وتعالى ) ونصبت امتثالا على المفعول المطلق أو الحال ( متمثلين ) : ( تعاونوا على البر والتقوى ) و ( تعاونوا ) فعل أمر يفيد الإلزام وقابل سبحانه بينهما و ( لا تعاونوا على الإثم والعدوان ) لينهي عن الثانية وليبرز المعنى المراد ( التعاون ليس مرغوباً فيه في كل الحالات ) ولكن فيما يعود على الناس بالخير والابتعاد عما نهى الله عنه ، ويعزز حديثه بشاهد شعري :
جزي الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
والشاهد لا يناسب ما جاء لتعزيزه ، فالحديث السابق عن التعاون الخير وأهميته ، واستخدام الفعل الماضي هنا يفيد الدعاء ، فهو يدعو الله أن يجازي الشدائد كل خير و جزى ( كفى وأغنى ) و ( الشدائد ) جاءت جمعاً لتفيد كثرة ما تعرض له الشاعر من مصائب ، وفي البيت استعارة ، والشدائد أكسبت الشاعر خبرة تمكنه من التمييز بين العدو والصديق ، وقدم ( عدوي ) على ( صديقي ) ،إما لكثرة الأولى وقلة الثانية ، أو للأهمية النسبية لمعرفة الأولى .
ويظهر قيمة التعاون فيقول : ( فما نالت أمة نصيبها من رغد العيش ،واستقرار الرأي ، إلا بالتعاون والاتحاد) فيستخدم أسلوب القصر لتوكيد معناه و ( نال ) هنا تفيد الأخذ عـن استحقاق و( نصيبها ) هنـا بمعنى مكانتها و ( رغد العيش ) رفاهيته ، و ( استقرار الــرأي ) دليــل التوافق والانسجام وقـــدم ( رغد العيش ) على ( استقرار الرأي ) ، لأنها من عوامل استقرار الرأي ، ولحاجة الإنسان إلى إشباعها ، ولا يتم ذلك إلا بالتعاون – بين مختلف فئاتها وطبقاتها – والاتحاد ، وقدم التعاون لأنه مدخل الاتحاد وسبيله . ويكمل ( ولا فاز شعب بحقه في الاستقلال ، ونصيبه من التقدم والازدهار إلا بتكاتف أفراده / واجتماع كلمتهم ) . والفوز انتصار ، والفوز يحتــاج إلى نضال ، وهـــو نضال مشروع ؛ لأنه من أجل الحق ( بحقه في الاستقلال ) و ( نصيبه ) الحصة التي يستحقها . وقدم ( التقدم ) على ( الازدهار ) ؛ لأن الأول سبب حدوث الثانية و ( تكاتف أفراده ) والتكاتف ينجم عن الاتفاق والمساندة والألفة ، و ( اجتماع كلمتهم ) على قول واحد دليل على وضوح الأهداف وسبيل